وقال أبو حنيفة : لا يستوفى ، بل يمنع منه الطعام ، والشراب ، والبيع والشراء ، والكلام حتى يخرج ، ثم يستوفى منه القصاص ، واحتج بهذه الآية فقال : ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمنا ، ولا يمكن حمله على الخبر ؛ إذ قد لا يصير آمنا في حق من أتى بالجناية في الحرم ، وفي القصاص فيما دون النفس ، فوجب حمله على الأمر ، وتركنا العمل به في الجناية التي دون النفس ؛ لأن الضرر فيها أخف من ضرر القتل ، وفي القصاص بالجناية في الحرم ؛ لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم ، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية.
وأجيب بأنّ قوله : (كانَ آمِناً) إثبات لمسمّى الآية ، ويكفي في العمل به ، في إثبات الأمن من بعض الوجوه ، ونحن نقول به ، وبيانه من وجوه :
الأول : أن من دخله للنّسك ، تقرّبا إلى الله تعالى ، كان آمنا من النار يوم القيامة ، قالصلىاللهعليهوسلم «من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار تباعدت عنه النّار مسيرة مائتي عام» (١) ، وقالصلىاللهعليهوسلم «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» (٢).
الثاني : يحتمل أن يكون المراد : ما أودعه الله في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ، ودفع المكروه عنه ، ولما كان الأمر واقعا على هذا الوجه ـ في الأكثر ـ أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقا ، وهذا أولى مما قالوه ، لوجهين :
الأول : أنا ـ على هذا التقدير ـ لا نجعل الخبر قائما مقام الأمر ، وهم جعلوه قائما مقام الأمر.
الثاني : أنه ـ تعالى ـ إنما ذكر هذا ، لبيان فضيلة البيت ، وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوما للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت ، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد صلىاللهعليهوسلم ، فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة.
الوجه الثالث : قد تقدم أن هذا إنما ورد في عمرة القضاء.
الرابع : ما تقدم ـ أيضا ـ عن الضّحّاك أنه يكون آمنا من الذنوب التي اكتسبها.
وملخّص الجواب : أنه حكم بثبوت الأمن ، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد ، وفي صورة واحدة ، فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى
__________________
(١) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٢ / ٢١٠) رقم (٣٤٧٠٤) وعزاه لأبي الشيخ عن أبي هريرة وفيه عبد الرحيم بن زيد العمي متروك عن أبيه وليس بالقوي.
وأخرجه العقيلي في «الضعفاء» (١ / ٢٢٦) عن ابن عباس بلفظ : باعد الله جهنم منه سبعين خريفا.
وقال : هذا حديث باطل لا أصل له.
وذكره ملا علي القاري في «الأسرار المرفوعة» (٩٢٣) وقال : قد ذكره الإمام النسفي في «تفسير المدارك» وهو إمام جليل فلا بد أن يكون للحديث أصل غايته أن يكون ضعيفا.
(٢) تقدم.