أكابر القوم ، أحدهم أميرهم ، وصاحب مشورتهم ، يقال له : العاقب ، واسمه عبد المسيح ، والثاني مشيرهم ووزيرهم ، وكانوا يقولون له : السيد ، واسمه الأيهم ، والثالث حبرهم وأسقفهم ، وصاحب مدراسهم ، يقال له : أبو حارثة بن علقمة ـ أحد بني بكر بن وائل ـ وكان ملوك الروم قد أكرموه وشرّفوه ، وموّلوه ؛ لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم ، فلما قدموا من «نجران» ركب أبو حارثة بغلته ، وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة ، فبينما بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت ، فقال كرز : تعسا للأبعد ـ يريد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ فقال أبو حارثة : بل تعست أمّك ، فقال : ولم يا أخي؟ فقال : إنه ـ والله ـ النبيّ الذي كنا ننتظره ، فقال له أخوه كرز : فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا؟
قال : لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة ، وأكرمونا ، فلو آمنّا بمحمد لأخذوا منّا كلّ هذه الأشياء ، فوقع ذلك في قلب أخيه كرز ، وكان يضمره إلى أن أسلم ؛ فكان يحدّث بذلك ، ثم دخلوا مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين صلى العصر ـ عليهم ثياب الحبرات (١) جبب وأردية ـ ، وقد حانت صلاتهم ، فقاموا للصلاة [العاقب والسيد والحبر](٢) في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال رسول الله : دعوهم ، فصلوا إلى المشرق ، ثم
__________________
ـ وذكر ابن إسحق أنهم وفدوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمكة وهم حينئذ عشرون رجلا ، لكن أعاد ذكرهم في الوفود بالمدينة فكأنهم قدموا مرتين. وقال ابن سعد : كان النبي صلىاللهعليهوسلم كتب إليهم ، فخرج إليه وفدهم في أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وعند ابن إسحق أيضا من حديث كرز بن علقمة : أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلا ، وسرد أسماءهم.
وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخل في الإسلام ، حتى يلتزم أحكام الإسلام ، وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب ، وقد تجب إذا تعينت مصلحته ، وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة ، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي ، ووقع ذلك لجماعة من العلماء ، ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة ، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة ، فلم يقم بعدها غير شهرين ، وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال ، ويجري ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم ؛ فإن كلّا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام ، وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام ، وفيها منقبة ظاهرة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ، وقد ذكر ابن إسحق أن النبي صلىاللهعليهوسلم بعث عليا إلى أهل نجران ؛ ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم ، وهذه القصة غير قصة أبي عبيدة ؛ لأن أبا عبيدة توجه معهم ، فقبض مال الصلح ورجع ، وعلي أرسله النبي صلىاللهعليهوسلم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية ، ويأخذ ممن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة والله أعلم. ينظر فتح الباري ٨ / ٤٢٨ ، ٤٢٩.
(١) والحبرة والحبرة : ضرب من برود اليمن منمّر ، والجمع حبر وحبرات. اللّيث : برود حبرة ضرب من البرود اليمانيّة. يقال برد حبير وبرد حبرة ، مثل عنبة. على الوصف والإضافة ؛ وبرود حبرة. قال : وليس حبرة موضعا أو شيئا معلوما إنما هو وشي كقولك ثوب قرمز. ينظر لسان العرب ٢ / ٧٤٩ ـ ٧٥٠ (حبر) ، النهاية في غريب الحديث ١ / ٣٢٨.
(٢) سقط في ب.