تعطيهم هذا الملك ، لا على معنى أنه يسلب ذلك بعد إعطائه ، ونظيره قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٢] مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قطّ.
وحكي عن الكفار قولهم ـ للأنبياء عليهمالسلام ـ : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨] وقول الأنبياء : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [الأعراف : ٨٩] مع أنهم لم يكونوا فيها ـ قط ـ.
وعلى هذا القول تكون الآية ردّا على أربع فرق :
إحداها : الذين استبعدوا أن يجعل الله بشرا رسولا.
الثانية : الذين جوّزوا أن يكون الرسول من البشر ، إلا أنهم قالوا : إن محمدا فقير (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١].
الثالثة : اليهود الذين قالوا : إن النبوة في أسلافنا ، وإن قريشا ليست أهلا للكتاب والنبوة.
الرابعة : المنافقون ، فإنهم كانوا يحسدونه على النبوة ـ على ما حكى عنهم في قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٤].
وقيل : المراد ما يسمّى ملكا في العرف ، وهو عبارة عن أشياء :
أحدها : كثرة المال والجاه.
الثاني : أن يكون بحيث يجب على غيره طاعته ، ويكون تحت أمره ونهيه.
الثالث : أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد قدر على قهر ذلك المنازع.
أما كثرة المال فقد نرى الرجل اللبيب لا يحصل له ـ مع العناء العظيم ، والمعرفة الكثيرة ـ إلا قليل من المال ، ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميتها.
وأما الجاه ، فالأمر فيه أظهر ، وأما القسم الثاني ـ وهو وجوب طاعة الغير له ـ فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله.
وأما القسم الثالث ـ وهو حصول النصرة والظفر ـ فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى ؛ فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى.
فصل
قال الكعبيّ : قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ،) أي : بالاستحقاق ، فتؤتيه من يقوم به ، وتنزعه من الفاسق ؛ لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] وقوله ـ في العبد الصالح ـ : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة : ٢٤٧] فجعله سببا للملك.