ولدا من امرأة أخرى ، فقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) معناه : كيف تعطيني الولد؟ فسأل عن الكيفية على القسم الأول ، أمّا على القسم الثاني فقال مستفهما لا شاكا. قاله الحسن والأصمّ.
وثانيهما : أن من كان آيسا من الشيء مستبعدا لحصوله ووقوعه ، إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود ، فربما صار كالمدهوش من شدة الفرح ، ويقول : كيف حصل هذا؟
ومن أين وقع؟ كمن يرى إنسانا وهب أموالا عظيمة ، يقول : كيف وهب هذه الأموال؟
ومن أين سمحت نفسك بهبتها. كذا هنا.
الثالث : أن الملائكة لما بشّروه بيحيى ، لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة أنثى ، أو من صلبه ، فذكر هذا الكلام ليزول ذلك الاحتمال.
الرابع : أن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء يطلب من السيد ، ثم إن السيد يعده بأنه سيعطيه ، فعند ذلك يلتذّ السائل بسماع ذلك ، فربما أعاد السؤال ؛ ليعيد ذلك الجواب ، فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى ، فيحتمل أن يكون هذا هو السبب في إعادة هذا الكلام.
الخامس : نقل عن سفيان بن عيينة قال : كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان نسي ذلك السؤال وقت البشارة ، فلما سمع البشارة ـ زمان الشيخوخة ـ استبعد ذلك ـ على مجرى العادة لا شكّا في قدرة الله ـ تعالى ـ.
السادس : قال عكرمة والسّدّيّ : إنّ زكريا ـ عليهالسلام ـ جاءه الشيطان عند سماع البشارة ، فقال يا زكريا إن هذا الصوت من الشيطان ـ وقد سخر منك ـ ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور (١) ، فقال زكريا ذلك ؛ دفعا للوسوسة ، ومقصوده من هذا الكلام أن يريه الله آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي والملائكة لا من إلقاء الشيطان.
قال القرطبي : لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشياطين عند الأنبياء عليهمالسلام ؛ إذ لو جوّزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع.
ويمكن أن يجاب بأنه لمّا قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله بواسطة الملائكة ، ولا مدخل للشيطان فيه ، أمّا ما يتعلق بمصالح الدنيا أو الولد ، فربما لا يتأكد ذلك بالمعجزات. فلا جرم [بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان](٢) ، فرجع إلى الله ـ تعالى ـ في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٨٦) عن عكرمة وأخرجه الطبري (٦ / ٣٨٦) وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (٢ / ٤٠) عن السدي.
(٢) سقط في أ.