أحدها : العلم ، فإنه كان يخبر عن الغيوب ، ويقول لهذا : إنك أكلت في دارك كذا ، ويقول لذلك : إنك صنعت في دارك كذا.
الثاني : القدرة ، وهي أن عيسى كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا.
الثالث : من جهة الإلزام المعنويّ ، وهو أنه لم يكن له أب من البشر.
الرابع : من جهة الإلزام اللفظي ، وهو قولهم لنا : أنتم تقولون : إنه روح الله ، وكلمته.
فالله تعالى استدل على بطلان قولهم بإلهية عيسى ، والتثليث بقوله : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ ،) فالإله يجب أن يكون حيّا قيّوما ، وعيسى ما كان حيّا قيّوما ، فلزم القطع بأنه لم يكن إلها ، وأجاب عن شبهتهم بعلم الغيوب بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ،) وكون عيسى عالما ببعض المغيّبات ، لا يدل على كونه إلها ؛ لاحتمال أنه علم ذلك بوحي من الله تعالى ، فعدم إحاطته بكل المغيّبات يدل قطعا على أنه ليس بإله ؛ لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء ؛ لأنه خالقهما ، والخالق لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى ما كان عالما بجميع المغيّبات ، وكيف (١) والنصارى يقولون : إنه قتل ، فلو كان يعلم الغيب ، لعلم بأن القوم يريدون قتله ، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه ، وأما تعلقهم بقدرته على إحياء الموتى ، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) وتقديره : أن حصول الإحياء لعيسى في بعض الصور لا يدل على كونه إلها ؛ لاحتمال أنّ الله تعالى أكرمه بذلك إظهارا لمعجزته ، وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعا عدم إلهيته ، لأن الإله هو القادر على أن يصوّر في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب ، فلو كان عيسى قادرا على الإحياء ، والإماتة ، لأمات أولئك الذين أخذوه وقتلوه ـ على زعمهم ـ فثبت أن الإحياء والإماتة في بعض الصور لا تدل على كونه إلها ، وكذلك عدم حصول الإحياء والإماتة له في كل الصور دليل على أنه ما كان إلها.
وأما الشبهة الثالثة وهي الإلزام المعنويّ بأنه لم يكن له أب من البشر ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) فإن شاء صوره من نطفة [الأب](٢) ، وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب ، كما خلق آدم من غير أب أيضا ولا أمّ.
وأما قولهم لنا : أنتم تقولون : إنه روح الله وكلمته ، فهذا الإلزام لفظي ، وهو محتمل للحقيقة والمجاز ، فإذا ورد لفظ يكون ظاهره مخالفا للدليل العقلي كان من باب المتشابهات ، فوجب ردّه إلى التأويل ، وذلك هو المراد بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ
__________________
(١) في أ : وكيف المعلوم.
(٢) سقط في أ.