وقيل : النصارى ، فهم فوق اليهود إلى يوم القيامة (١) ، فإن اليهود قد ذهب ملكهم ، وملك النصارى يدوم إلى قريب من قيام الساعة. وعلى هذا الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين ، فإن النصارى ـ وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم مخالفون له أشدّ مخالفة ؛ لأن صريح العقل يشهد بأن عيسى ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهّال ، ومع ذلك فإنا نرى دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود ، ولا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكا يهوديّا ولا بلدة مملوءة من اليهود ، بل يكونون ـ أينما كانوا ـ في الذلة والمسكنة ، والنصارى بخلاف ذلك.
فصل
قال أهل التّاريخ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة ، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنة من غلبة الاسكندر على أهل بابل ، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة ورفعه من بيت المقدس ليلة القدر في شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فكانت نبوته ثلاث سنين ، وعاشت أمّه مريم بعد رفعه ست سنين.
فصل
قال ابن الخطيب : في مباحث هذه الآية موضع مشكل ، وهو أن نصّ القرآن يدل على أنه ـ تعالى ـ حين رفعه ألقى شبهه على غيره ، على ما قال : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء : ١٠٧] والأخبار واردة أيضا بذلك ، إلا أن الروايات اختلفت ، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلّوا اليهود على مكانه ، فقتلوه وصلبوه ، وتارة يروى أنه صلىاللهعليهوسلم رغّب أحد خواصّ أصحابه في أن يلقي الله شبهه عليه حتى يقتل في مكانه ، وبالجملة ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات :
الأول : أنا لو جوّزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر ، لزم السفسطة ؛ فإني إذا رأيت ولدي ، ثم زينته ثانيا فحينئذ أجوّز أن يكون هذا الذي أراه ثانيا ليس ولدي ، بل هو إنسان آخر ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان عن المحسوسات.
وأيضا فالصحابة الذين رأوا محمّدا صلىاللهعليهوسلم يأمرهم ، وينهاهم ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمد ؛ لاحتمال أنه ألقي شبهه على الغير ، وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع.
وأيضا فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس ، فإذا [جاز](٢) الغلط في المبصرات كان سقوط الخبر المتواتر أولى ، وبالجملة ، ففتح هذا الباب أوله السفسطة ، وآخره إبطال النبوات بالكلّيّة.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٦٣) عن ابن زيد.
(٢) في أ : وقع.