وهذا الوجه قد ردّه جماعة من حيث الصناعة ، ومن حيث المعنى ؛ أما من حيث الصناعة ؛ فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما ، فإنما يضاف المصدر لمرفوعه ـ دون منصوبه ـ فيقال : يعجبني ضرب زيد عمرا ، ولو قلت : ضرب عمرو زيد ، لم يجز إلا في ضرورة ، كقوله : [البسيط]
١٥٤١ ـ أفنى تلادي وما جمّعت من نشب |
|
قرع القواقيز أفواه الأباريق (١) |
يروى بنصب «أفواه» على إضافة المصدر ـ وهو «قرع» ـ إلى فاعله ، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله. وقد جوّزه بعضهم في الكلام على ضعف ، والقرآن لا يحمل على ما في الضرورة ، ولا على ما فيه ضعف ، أمّا من حيث المعنى ؛ فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم ـ مستطيعهم وغير مستطيعهم ـ بأن يحج مستطيعهم ، فيلزم من ذلك تكليف غير المستطيع بأن يحجّ ، وهو غير جائز ـ وقد التزم بعضهم هذا ، وقال : نعم ، نقول بموجبه ، وأن الله ـ تعالى ـ كلّف الناس ذلك ، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان ؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرض واجب. و «من» ـ على هذه الأوجه الخمسة ـ موصولة بمعنى : الذي.
السادس : أنها شرطية ، والجزاء محذوف ، يدل عليه ما تقدم ، أو هو نفس المتقدم ـ على رأي ـ ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على «النّاس» ، تقديره : من استطاع منهم إليه سبيلا فلله عليه.
ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده ، وهو قوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).
وقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) جملة من مبتدأ ـ وهو (حِجُّ الْبَيْتِ) ـ وخبر ـ وهو قوله : «لله» ـ و «على النّاس» متعلق بما تعلق به الخبر ، أو متعلق بمحذوف ؛ على أنه حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه ـ أيضا ـ ذلك الاستقرار المحذوف ، ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر ، و «لله» متعلق بما تعلق به الخبر ، ويمتنع فيه أن يكون حالا من الضمير في «على النّاس» وإن كان العكس جائزا ـ كما تقدم ـ.
والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي ، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي ـ بخلاف الظرف وحرف الجر ، فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي ؛ للاتساع فيهما ، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك ، يجوز تقديمها على العامل
__________________
(١) البيت للأقيشر الأسدي ينظر ديوانه ص ٦٠ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٩١ ، والدرر ٥ / ٢٥٦ ، وشرح التصريح ٢ / ٦٤ ، ولسان العرب (قفز) وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٩١ ، والشعر والشعراء ص ٥٦٥ ، والأغاني ١١ / ٣٥٩ ، والمؤتلف والمختلف ص ٥٦ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٠٨ ، وإصلاح المنطق ص ٣٣٨ ، والإنصاف ١ / ٢٣٣ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢١٢ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٣٧ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٩٣ ، واللمع ص ٢٧١ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٣٦ ، والمقتضب ١ / ٢١ ، والمقرب ١ / ١٣٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ٩٤. والدر المصون ٢ / ١٧٢.