فإن قيل : إنه عطف على حبل الله حبلا من الناس ، وذلك يقتضي المغايرة.
فالجواب : قال بعضهم : حبل الله هو الإسلام ، وحبل الناس هو العهد والذمة ، وهذا بعيد ؛ لأنه لو كان المراد ذلك ، لكان ينبغي أن يقال : أو حبل من الناس.
وقال آخرون : المراد بكلا الحبلين : العهد والذمة والأمان ، وإنما ذكر ـ تعالى ـ الحبلين ؛ لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين ، هو الأمان المأخوذ بإذن الله تعالى.
قال ابن الخطيب : وهذا عندي ـ أيضا ـ ضعيف ، والذي عندي فيه أن الأمان للذميّ قسمان :
أحدهما : الذي نصّ الله عليه ، وهو أخذ الجزية.
الثاني : الذي فوض إلى رأي الإمام ، فيزيد فيه تارة ، وينقص بحسب الاجتهاد ، فالأول : هو المسمّى بحبل الله ، والثاني : هو المسمى بحبل المؤمنين.
قوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) تقدم أن معناه : مكثوا ، ولبثوا ، وداموا في غضب الله ، مأخوذ من البوء ـ وهو المكان ومنه : تبوأ فلان منزل كذا ـ ومنه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) [الحشر : ٩].
قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ).
قال الحسن ، وأكثر المفسرين : المسكنة : الجزية ؛ لأنه لم يستثنها ، فدلّ ذلك على بقائها عليهم ، والباقي عليهم ليس إلا الجزية.
وقال آخرون : المسكنة : هي أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر ، وإن كان موسرا (١).
وقال آخرون : هذا إخبار من الله بأنه جعل أموال اليهود رزقا للمسلمين ، فيصيروا مساكين (٢).
قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) بيّن العلة في إلصاق هذه الأمور المكروهة بهم ، وتقدم الكلام على مثل ذلك في سورة البقرة.
فإن قيل : فما الحكمة في قوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا ،) ولا يجوز أن يكون هذا التكرير للتأكيد ؛ لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد ـ والعصيان أقل حالا من الكفر ـ فلا يؤكّد الكفر بالعصيان؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن علة الذلة ، والغضب ، والمسكنة ، هي : الكفر ، وقتل الأنبياء ، وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي : المعصية ؛ لأنهم لما توغّلوا في المعاصي والذنوب ، وتزايدت
__________________
(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير (٨ / ١٦١).
(٢) انظر المصدر السابق.