الثاني : أن الصلاح ضدّ الفساد ، فكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد ، سواء كان ذلك في العقائد ، أو في الأعمال ـ وإذا كان كذلك كان كل ما ينبغي أن يكون صلاحا ، فكان الصّلاح دالّا على أكمل الدرجات.
قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) يجوز في «من» أن تكون للتبعيض ـ وهو الظاهر ـ.
وجعلها ابن عطية لبيان الجنس ، وفيه نظر ؛ إذ لم يتقدم مبهم ، فتبينه هذه.
قوله : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ).
قرأ الأخوان وحفص : «يفعلوا» و «يكفروه» ـ بالغيبة ـ.
والباقون بالخطاب (١).
الغيب مراعاة لقوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ،) فجرى على لفظ الغيبة ، أخبرنا ـ تعالى ـ أن ما يفعلونه من خير يبقى لهم غير مكفور ؛ وقراءة الباقين بالتاء الرجوع إلى الخطاب لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم في قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ).
ويجوز أن يكون التفاتا من الغيبة في قوله : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) إلى آخره ؛ إلى خطابهم ، وذلك أنه آنسهم بهذا الخطاب ، ويؤيد ذلك أنه اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؛ ليزيد في التأنيس.
ويدل على ذلك قراءة الأخوين ؛ فإنها كالنص في أن المراد قوله : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ).
فصل
اعلم أن اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه : إنكم خسرتم بسبب إيمانكم ، قال الله تعالى : بل فازوا بالدرجات العظمى ، فالمقصود تعظيمهم ؛ ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال ، وهذا وإن كان لفظه ـ على قراءة الغيبة ـ لمؤمني أهل الكتاب ، فسائر الخلق يدخلون فيه نظرا إلى العلّة.
أما على قراءة المخاطبة فهذا ابتداء خطاب لجميع المؤمنين ـ ونظيره قوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) [البقرة : ١٩٧] ، وقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) [البقرة : ٢٧٣] ، وقوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [المزمل : ٢٠] ، ونقل عن أبي عمرو : أنه كان يقرأها بالقراءتين (٢).
وسمّي منع الجزاء كفرا لوجهين :
الأول : أنه ـ تعالى ـ سمّى إيصال الجزاء شكرا ، فقال : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١٥٨] ، وسمى منعه كفرا.
__________________
(١) انظر : السبعة ٢١٥ ، والكشف ١ / ٣٥٤ ، والعنوان ٨٠ ، والحجة ٣ / ٧٣ ، وحجة القراءات ١٧٠ ، ١٧١ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٧ ، ١١٨ ، وشرح شعلة ٣٢٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٣ ، وإتحاف ١ / ٤٨٦.
(٢) انظر : السابق.