المكان ، وتحصّنوا به ، أمرهم ـ هناك ـ بالجهاد ، والذّبّ عن بقية المسلمين ، ولا شك أن الإقدام على الجهاد بعد الانهزام ، وبعد أن شاهدوا قتل أقاربهم وأحبّائهم من أعظم أنواع الابتلاء.
فإن قيل : فعلى هذا التأويل ، هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مذنبين ، فلم قال : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ).
قلنا : الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ، ومن لم يكن معذورا ، أو هم الذين بدءوا بالهزيمة ، فقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) راجع إلى المعذورين ؛ لأنّ الآية لما اشتملت على قسمين ، وعلى حكمين ، رجع كلّ حكم إلى القسم الذي يليق به ، ونظيره : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) [التوبة : ٤٠] والمراد الذي قال له : لا تحزن إن الله معنا ـ وهو أبو بكر ـ لأنه كان خائفا قبل هذا القول ، فلما سمع هذا القول سكن ، ثم قال : (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) وعنى بذلك الرسول صلىاللهعليهوسلم دون أبي بكر ؛ لأنه قد جرى ذكرهما جميعا ، هذا قول الجبائي.
الثاني : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني : وهو أنّ المراد من قوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) أنه ـ تعالى ـ أزال ما كان في قلوب الكفار من الرّعب من المسلمين ؛ عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم ، ثم قال : (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي : ليجعل ذلك الصّرف محنة عليكم ؛ لتتوبوا إلى الله ، وترجعوا إليه ، وتستغفروه من مخالفة أمر النبي صلىاللهعليهوسلم وميلكم إلى الغنيمة ، ثم أعلمهم أنه ـ تعالى ـ قد عفا عنهم.
الثالث : قال الكعبي : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) بكثرة الإنعام عليكم.
قوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) ظاهره يقتضي تقدّم ذنب منهم.
قال القاضي إن كان ذلك الذنب من الصغائر صحّ أن يصف نفسه بأنّه عفا عنهم من غير توبة ، فإن كان من الكبائر ، فلا بد من إضمار توبتهم ؛ [لإقامة](١) الدلالة على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرة.
وأجيب بأنّ هذا الذنب لا شك أنه كان كبيرة ، لأنهم خالفوا صريح نصّ الرسول صلىاللهعليهوسلم وصارت تلك المخالفة سببا لانهزام المسلمين ، وقتل جمع كبير من أكابرهم ، ومن المعلوم أن ذلك كله من باب الكبائر.
وأيضا ظاهر قوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) يدل على كونه كبيرة ، ويضعف قول من قال : إنه خاص في بدر ؛ لأن اللفظ عامّ ، ولا تفاوت في المقصود ، فكان
__________________
(١) في أ : لقيام.