قال الشيخ عبد القاهر : « إنّ المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف وطبائعهم التي لا تتبدل ، أن لا يسلِّموا لخصومهم الفضيلة ، وهم يجدون سبيلاً إلى دفعها ، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم . كيف ، وإنّ الشاعر أو الخطيب أو الكاتب ، إذا بلغه أنّ بأقصى الإقليم من يباهي بشعره ، أو بخطبته أو برسالته التي يعملها ، يَدْخُلُه من الأَنفَة والحميَّة ما يدعوه إلى معارضته ، وإلى أن يُظهر ما عنده من الفضل . هذا فيما لم ير ذلك الإنسان قطّ ، ولم يكن منه إليه ما يهزّ ويحرّك ، فكيف إذا كان المدعي بمرأى ومسمع منه ، فإنّ ذلك أدعى له إلى مباراته ، وأن يُعَرِّف الناس أنّه لا يقصر عنه ، أو أنّه منه أفضل ، فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مباراته ، فذلك الذي يُسْهِر ليله ويسلبه القرار ، حتى يتفرّغ مجهوده في جوابه ، ويبلغ أقصى الحدّ في مناقضته .
هذا ، فكيف إذا ظهر في صميم العرب وفي مثل قريش ، ذوي الأنفس الأبية ، والهمم العليّة ، من يَدّعي النبوة ويخبر أنّه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق ، ثم يقول وحجتي أنّ الله تعالى قد أنزل عليّ كتاباً عربياً مبيناً ، تعرفون ألفاظه ، وتفهمون معانيه ، إلّا أنّكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ، ولا بعشر سُوَر منه ، ولا بسورة واحدة ولو جمعتم جهدكم واجتمع معكم الجن والإنس . فلا يتصور منهم السكوت والسكون في مقابل هذا الإدعاء ، إلّا إذا كانوا عاجزين » (١) .
ربما يتصور الغافل أنّ البلغاء المعاصرين لداعي الحق ، قد عارضوه بكتاب أو سور مثل كتابه وسوره ، ولكنه اختفى أثره في شعاع ضوء قدرة الإسلام والمسلمين وسلطانهم على الجزيرة وخارجها .
والجواب : إنّه رجمٌ بالغيب وتصوّر باطل لا تصدقه الموازين التاريخية والعلمية ، إذ لو كانت ثمة معارضة ومقابلة ، لما اختفى على العرب المعاصرين ولا
__________________
(١) ثلاث رسائل ، الرسالة الشافية ، لعبد القاهر الجرجاني ، ص ١١٠ .