يشتمل القرآن الكريم على أكثر من خمسين مثلاً في مجال هِداية الناس . وهذه الأمثال مع بساطتها غزيرة المعاني ، عالية المضامين . ونحن نذكر في المقام نموذجاً منها يتبلور فيه عمق المعنى بشكل آخر .
يصوّر القرآن الكريم الصراع القائم بين الحق والباطل بصورة مثل بديع ، يشتمل على نكات بعيدة الأغوار ، عميقة الإشارات ، في ألفاظ قليلة ، وعبارات متناسقة ، ويقول :
( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ، وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ، كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ، كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ ) (١) .
إنّ هذه الآية من أعمق الآيات القرآنية ، فهي ـ بلباس المثل ـ تطرح معاني سامية تبين فيها مكانة الباطل من الحق . ففي هذا المثال ، تشبّه الآية كلا من الحق والباطل بأمرين :
الأول : إنّ الحق كالماء النازل من السماء ، المتجمع في أعماق الأرض ، أو الجاري جداول وأنهاراً ، بعد انحداره من سفوح الجبال إلى الأودية والسهول .
والباطل كالزبد والرغوة التي تعلو وجه الماء حال سيلانه واندفاعه ، التي لا تلبث أن تتلاشى كأنّ لم تكن شيئاً مذكوراً .
الثاني : إنّ الحق كرواسب الأتربة المعدنية المذابة في الأفران ، فإنّها خالص المعادن والفلزات .
__________________
(١) سورة الرعد : الآية ١٧ .