ولأجل ذلك كان على القوم الذين جعلوا الفصاحة والبلاغة ركنين للإعجاز ، وملاكين له ، إضافة قيد آخر ، وهو كون المعاني والمضامين عالية وسامية ، تسرح فيها النفوس ، وتغوص فيها العقول .
ومن هنا نرى أنّ بعض أساتذة هذا الفن المعاصرين ، عرفوا البلاغة بشكل آخر ، قالوا : هي تأدية المعنى الجليل واضحاً بعبارة صحيحة فصيحة ، مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه ، والأشخاص الذين يخاطبون (١) .
فترى أنّه أضيف في التعريف وراء ملائمة كل كلام للموطن ( مطابقة الكلام لمقتضى الحال ) ، كون المعنى جليلاً .
وسيوافيك أنّ هذا المقدار من التعريف أيضاً غير واف للرقي بالكلام إلى حدّ الإعجاز ، بل يحتاج إلى دعامة أخرى وهي بداعة الأسلوب ورقيّه ، كما سيوافيك .
إنّ ها هنا نكتة تلقي الضوء على سبب حصر فصاحة القُرآن ـ كما سيأتي ـ في خلوه عن تنافر الحروف والكلمات ، وتَرْكنا البحث عن كل ما ذكروه في فصاحة المفرد والكلام من الشرائط المتعددة ، فهل هذا يعني إنكار دخالة غيره في الفصاحة ، أوْ له معنى آخر ؟ .
والجواب : إنّ كونَ الكلمةِ متلائمةَ الحروف في فصاحة المفرد ، وكونَ الكلامِ متلائمَ الكلمات في فصاحة الجملة ، له القسط الأوفر في تحقق الفصاحة ، لأنّ الفصاحة تعتمد على مقاطع الحروف والكلمات أكثر من كل شيء . وأمّا غير ذلك ممّا ذكروه في تعريفهما ، فكأنّها معدّات لخروج الكلام عذباً حسناً ، بهيّاً نَضِراً ، له وقع في القلوب . ولأجل ذلك ركزنا على حديث تلاؤم الحروف والكلمات ، وخلوهما عن التنافر ، هذا .
__________________
(١) البلاغة الواضحة ، ص ٨ .