إنّ ثبات المدّعي في طريق دعوته ، آية إيمانه بها ، فإذا رؤي فيه أنّه يضحّي بماله ونفسه وأقربائه ووُلده في طريق دعوته ، ويقتحم بنفسه المعارك الخطيرة ، ولا يتجنَّن بتقديم غيره ، يستكشف من ذلك كونه مؤمناً بدعوته ، صادقاً في قوله . وهذا علي بن أبي طالب يصف حال النبي في غزواته ، ويقول :
« كنّا إذا احمرّ البأس ، إتقينا برسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه » (١) .
وقد اتّفق أهل المغازي والسِير ، على أنّ النبي لم يتراجع في حرب من الحروب ، بل كان صَموداً في وجه العدو ، رغم ما كان يرد عليه من الجراحات ، وشيوع اليأس في جيشه .
ويكفي في ذلك السبر في تاريخ حروبه لا سيما في أُحُدْ وغزوة حُنَيْن . ففي أُحُد عمّت الهزيمة جيشه ، ولم يثبت معه في المعركة إلّا أشخاص قلائل ، فأخذ يدعو أصحابه وهم ينسحبون من أرض المعركة ، وهو راسخ فيها كالجبل الأشمّ لا تحركه العواصف . يقول سبحانه ، في حكايته لهذه الواقعة :
( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ، فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ، وَاللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (٢) .
وأوضح من هذا ، ثباتُه في مكة ، وقد كان وحيداً في دعوته ، لم يؤمن به حينها إلّا عدّة قليلة يعيشون حالة الخوف والمطاردة ، والطواريء الشديدة تنزل على النبي ، الواحدة منها تلو الأُخرى ، وقد سطّر من تلك الحالات الكثير ، منها : تعرُّض الأراذل له بالشتم ، وإلقاء القذورات عليه ، أو إلقاء عمامته في عنقه وجرّه بها ، وغير ذلك ، وهو صابر محتسب (٣) . كما كان يتعرض للأذي المستمر من
__________________
(١) نهج البلاغة ، قسم الحكم ، فصل غريب كلامه ، الرقم ٩ .
(٢) سورة آل عمران : الآية ١٥٣ .
(٣) لاحظ السيرة الحلبية ، ج ١ ، ص ٢٩٣ .