الذين يبيعون الحياة الفانية بالحياة الباقية ، ويجوز : يبيعون الحياة الدنيا بنعيم الآخرة أي يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله بتوطين أنفسهم على الجهاد في طاعة الله ، وبيعهم إياها بالآخرة هو استبدالهم إياها بالآخرة (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي يجاهد في طريق دين الله بأن يبذل ماله ونفسه ابتغاء مرضاته (فَيُقْتَلْ) أي يستشهد (أَوْ يَغْلِبْ) أي يظفر بالعدو ، وفيه حث على الجهاد فكأنه قال : هو فائز بإحدى الحسنيين : ان غلب أو غلب (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي نعطيه أغلى أثمان العمل ، وقيل : ثوابا دائما لا تنغيص فيه.
٧٥ ـ ثم حث سبحانه على تخليص المستضعفين فقال : (وَما لَكُمْ) أيها المؤمنون (لا تُقاتِلُونَ) أي أيّ عذر لكم في ترك القتال مع اجتماع الأسباب الموجبة للقتال (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) أي وفي المستضعفين ، أو في سبيل المستضعفين ، أي نصرة المستضعفين ، وقيل : في اعزاز المستضعفين ، وفي الذب عن المستضعفين (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) قيل : يريد بذلك قوما من المسلمين بقوا بمكة ولم يستطيعوا الهجرة منهم : سلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد ، وعيّاش بن أبي ربيعة ، وأبو جندل بن سهيل ، جماعة كانوا يدعون الله ان يخلصهم من أيدي المشركين ويخرجهم من مكة ، وهم (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) أي يقولون في دعائهم : ربنا سهّل لنا الخروج من هذه القرية يعني مكة الظالم أهلها : أي التي ظلم أهلها بافتتان المؤمنين عن دينهم ، ومنعهم عن الهجرة (وَاجْعَلْ لَنا) بالطافك وتأييدك (مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك (وَلِيًّا) يلي أمرنا بالكفاية حتى ينقذنا من أيدي الظلمة (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا على من ظلمنا. فاستجاب الله تعالى دعاءهم فلما فتح رسول الله مكة (ص) جعل الله نبيه لهم وليا ، فاستعمل على مكة عتاب بن أسيد ، فجعله الله لهم نصيرا ، فكان ينصف الضعيف من الشديد ، فاغاثهم الله فكانوا أعزبها من الظلمة قبل ذلك.
٧٦ ـ ثم شجّع المجاهدين ورغّبهم في الجهاد بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله ، وفي نصرة دينه وإعلاء كلمته ، وابتغاء مرضاته ، بلا عجب ولا طمع في غنيمة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) وطاعته (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) يعني جميع الكفار (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) دخلت كان ها هنا مؤكدة لتدل على ان الضعف لكيد الشيطان لازم في جميع الأحوال والأوقات ، ما مضى منها وما يستقبل.
٧٧ ـ ثم عاد سبحانه إلى ذكر القتال ومن كرهه فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) وهم بمكة (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أي امسكوا عن قتال الكفار فإني لم اؤمر بقتالهم (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ) أي فرض (عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) وهم بالمدينة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي جماعة منهم (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ) أي يخافون القتل من الناس كما يخافون الموت من الله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) أي وأشد (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) قال الحسن : لم يقولوا ذلك كراهية لأمر الله ولكن لدخول الخوف عليهم بذلك على ما يكون من طبع البشر ، ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك استفهاما لا إنكارا (لَوْ لا أَخَّرْتَنا) أي هلا أخرتنا (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وهو إلى ان نموت بآجالنا ، ثم أعلم الله تعالى أن الدنيا بما فيها من وجوه المنافع قليل فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء (مَتاعُ الدُّنْيا) أي ما يستمتع به من منافع الدنيا (قَلِيلٌ) لا يبقى (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي ولا تبخسون هذا القدر فكيف ما زاد عليه ، والفتيل ما في شق النواة لأنه كالخيط المفتول.