٥٩ ـ ثم بين سبحانه أنهم قد عصوا فيما أمروا به فقال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي فخالف الذين عصوا والذين فعلوا ما لم يكن لهم أن يفعلوه ، وغيروا ما أمروا به فقالوا حطا سمقانا ومعناه : حنطة حمراء فيها شعيرة ، وكان قصدهم في ذلك الإستهزاء ومخالفة الأمر (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي فعلوا ما لم يكن لهم فعله من تبديلهم ما أمر الله به بالقول والفعل (رِجْزاً) أي عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بكونهم فاسقين ، كقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا) : أي بعصيانهم ، وقال ابن زيد : اهلكوا بالطاعون فمات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا من كبرائهم وشيوخهم.
٦٠ ـ ثم عدّ سبحانه وتعالى على بني إسرائيل نعمة أخرى إضافة إلى نعمه الأولى فقال : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى) أي سأل موسى لقومه ماء (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) معناه : فضربه فانفجرت وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه ، فشكوا إليه الظمأ فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك ، وهي عصاه المعروفة وكانت من آس الجنة دفعها إليه شعيب ، وكان ادم حمله من الجنة معه إلى الأرض ، فكان يقرع لهم حجرا من عرض الحجارة فينفجر عيونا لكل سبط عينا وكانوا إثني عشر سبطا ، ثم يسير كل في جدول إلى السبط الذي أمر بسقيهم (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) كان ينبجس ثم يكثر حتى يصير إنفجار (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) كان ينبجس ثم يكثر حتى يصير إنفجار (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) أي قد علم كل سبط وفريق منهم موضع شربهم وقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي وقلنا لهم كلوا واشربوا (مِنْ رِزْقِ اللهِ) أي كلوا من النعم التي منّ الله بها عليكم من المن والسلوى وغير ذلك ، واشربوا من الماء ، فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة ولا مؤونة ولا تبعة وقوله (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العيث : هو الفساد ، والمعنى : لا تسعوا في الأرض فسادا.
٦١ ـ لما عدد سبحانه فيما قبل ما أسداه إليهم من النعم والإحسان ، ذكر ما قابلوا به تلك النعم من الكفران وسوء الإختيار لنفوسهم بالعصيان فقال : (وَإِذْ قُلْتُمْ) أي قال أسلافكم من بني إسرائيل (يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد ، وقوله : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي فاسأل ربك وادعه لأجلنا (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) أي مما تنبته الأرض من البقل والقثاء ومما سماه الله مع ذلك ، وقوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) معناه : قال لهم موسى : أتتركون ما اختار الله لكم وتؤثرون ما هو أدون وأردى على ذلك وقوله (اهْبِطُوا مِصْراً) أراد مصر فرعون الذي خرجوا منه (فَإِنَّ لَكُمْ) فيها (ما سَأَلْتُمْ) من نبات الأرض ، ثم استأنف حكم الذين اعتدوا في السبت ، ومن قتل الأنبياء فقال : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي الزموا الذلة إلزاما لا يبرح عنهم كما يضرب المسمار على الشيء فيلزمه وقوله : والمسكنة : يعني زي الفقر ، فترى المثري منهم بتباءس ولا يوجد يهودي غني النفس ، وقال النبي (ص): الغني غني النفس ، وقال ابن زيد : أبدل الله اليهود بالعز ذلا ، وبالنعمة بؤسا وبالرضا عنهم غضبا ، جزاء لهم بما كفروا بآياته ، وقتلوا أنبياءه ورسله اعتداء وظلما (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجعوا منصرفين قد وجب عليهم من الله الغضب ، وحلّ بهم منه السخط ثم أشار إلى ما تقدم ذكره فقال (ذلِكَ) أي ذلك الغضب وضرب الذلة والمسكنة حل بهم لأجل (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي يجحدون وقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي بغير جرم كزكريا ويحيى وغيرهما وقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ذلك إشارة إلى ما تقدم أيضا بعصيانهم في قتل الأنبياء.