وهي القمر ، أي طمسنا نورها بما جعلنا فيها من السواد (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ) يعني الشمس (مُبْصِرَةً) أي نيرة مضيئة (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي لتسكنوا بالليل ، وتطلبوا الرزق بأنواع التصرف في النهار (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي لتعلموا بالليل والنهار عدد السنين والشهور ، (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي ميّزناه تمييزا ظاهرا بينا لا يلتبس ، وبينّاه تبيانا شافيا لا يخفى.
١٣ ـ ١٤ ـ لمّا قدّم سبحانه ذكر الوعيد ، أتبع ذلك بذكر كيفيته فقال (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) معناه : والزمنا كل إنسان عمله من خير أو شر في عنقه ، يريد جعلناه كالطوق في عنقه فلا يفارقه ، وإنما قيل للعمل طائرا على عادة العرب في قولهم : جرى طائره بكذا ، ومثله قوله : سبحانه (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) أي يرى ذلك الكتاب (يَلْقاهُ مَنْشُوراً) أي مفتوحا معروضا عليه ليقرأه ويعلم ما فيه (اقْرَأْ كِتابَكَ) أي يقال له : اقرأ كتابك عن أبي عبد الله (ع) قال : يذكر العبد جميع أعماله وما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي محاسبا ، وإنما جعله محاسبا لنفسه لأنه إذا رأى أعماله يوم القيامة كلها مكتوبة ، ورأى جزاء أعماله مكتوبا بالعدل لم ينقص عن ثوابه شيء ، ولم يزد على عقابه شيء أذعن عند ذلك وخضع وتضرع واعترف ، ولم يتهيأ له حجة ولا إنكار ، وظهر لأهل المحشر انه لا يظلم (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي من اهتدى في الدنيا إلى دين الله وطاعته فمنفعة اهتدائه راجعة إليه (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن ضل عن الدين في الدنيا فضرر ضلاله راجع إلى نفسه ، وعقوبة ضلاله على نفسه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل حاملة حمل أخرى ، أي ثقل ذنوب غيرها ، ولا يعاقب أحد بذنوب غيره (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) معناه : وما كنا معذبين قوما بعذاب الإستئصال إلّا بعد الإعذار إليهم ، والإنذار لهم بأبلغ الوجوه وهو إرسال الرسل إليهم.
١٦ ـ ٢٢ ـ (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) معناه : وإذا أردنا أن نهلك أهل قرية بعد قيام الحجة عليهم ، وإرسال الرسل إليهم ، أمرنا مترفيها : أي رؤساءها وساداتها بالطاعة واتباع الرسل أمرا بعد أمر نكرره عليهم ، وبينة بعد بينة نأتيهم بها إعذارا للعصاة ، وإنذارا لهم ، وتوكيدا للحجة ، ففسقوا فيها بالمعاصي ، وأبوا إلّا تماديا في العصيان والكفران (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي فوجب حينئذ عليها الوعيد (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي أهلكناها إهلاكا ، وإنما خصّ المترفين وهم المنعمون والرؤساء بالذكر لأن غيرهم تبع لهم ، فيكون الأمر لهم أمرا لأتباعهم ، معناه : أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا ، ومثله : أمرتك فعصيتني (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) أي من الأمم الكثيرة المكذبة (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) أي من بعد زمان نوح إلى زمانك هذا لأنه كم تفيد التكثير ، كما ان رب تفيد التقليل والقرن : مائة وعشرون سنة (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي كفى بربك عالما بذنوب خلقه (بَصِيراً) بها يجازيهم عليها ولا يفوته شيء منها. ثم بيّن سبحانه انه يدبر عباده بحسب ما يراه من المصلحة فقال (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) أي النعم العاجلة وهي الدنيا. فعبّر عنها بصفتها (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) من البسط والتقتير ، وعلق ذلك بمشيئته لا بمشيئة العبد ، فقد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله فلا يعطيه لكونه مفسدة (لِمَنْ نُرِيدُ) أيّ لمن نريد إعطاءه. بيّن بذلك أنه ربما يكون حريصا يريد الدنيا فلا يعطى وإن أعطي أعطي قليلا (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها) أي يصير بصلاها ،