قال (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) وانما قال من فوقهم لوجهين (أحدهما) ان المراد : يخافون عقاب ربهم ، وأكثر ما يأتي العذاب المهلك انما يأتي من فوق (والآخر) ان الله سبحانه لما كان موصوفا بأنه عال متعال ، بمعنى : انه قادر على الكمال ، حسن أن يقال : من فوقهم ليدل على انه في أعلى مراتب القادرين ، وعلى هذا معنى قول إبن عباس في رواية مجاهد قال : ذاك مخافة الإجلال ، واختاره الزجاج ، وذهب بعضهم إلى أن قوله : من فوقهم من صفة الملائكة ، والمعنى : إن الملائكة من فوق بني آدم ، وفوق ما في الأرض من دابة يخافون الله مع علوّ رتبتهم ، فلأن يخافه من دونهم أولى.
٥١ ـ ٥٥ ـ لما بيّن سبحانه دلائل قدرته وإلهيته عقبّه بالتنبيه على وحدانيته فقال : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) أي لا تعبدوا مع الله إلها آخر فتشركوا بينهما في العبادة ، لأنه لا يستحق العبادة سواه (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) وإنما لإثبات المذكور ونفي ما عداه ، فكأنه قال : هو إله واحد لا إله غيره (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي ارهبوا عقابي وسطواتي ، ولا تخشوا غيري (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وملكا وخلقا (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) أي وله الطاعة دائمة واجبة على الدوام (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) أي أفغير الله تخشون وهو استفهام فيه معنى التوبيخ ، أي فكيف تعبدون غيره ولا تتقونه (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) معناه : ان جميع ما بكم وما لكم من النعم مثل الصحة في الجسم ، والسعة في الرزق ونحوهما فكل ذلك من عند الله ومن جهته (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) مثل المرض والشدة والبلاء وسوء الحال (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي فإليه تتضرعون في كشفه ، وإليه ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة لصرفه (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) معناه : ثم إذا دفع ما حلّ بكم من الضرّ ودفع ما مسكم من المرض والفقر (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي دعا طائفة منكم إلى الشرك بربهم في العبادة جهلا منهم بربهم ، ومقابلة لنعمة بالكفران والعصيان ، وهذا عجب من فعل العاقل المميز (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) لأن يكفروا بانعامنا عليهم ، ورزقنا إياهم (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) خطاب لهم على التهديد والوعيد يقول : فتمتعوا أيها الكفار في الدنيا قليلا فسوف تعلمون ما يحل بكم في العاقبة من العقاب ، وأليم العذاب.
٥٦ ـ ٦٠ ـ ثم ذكر سبحانه فعلا آخر من أفعال المشركين دالا على جهلهم فقال : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) والواو في يعلمون تعود إلى المشركين ، أي لما لا يعلمون انه يضر وينفع (نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) يتقربون بذلك إليه كما يجب أن بتقرّب إلى الله تعالى ، وهو ما حكى الله عنهم في سورة الأنعام من الحرث وغير ذلك وقولهم : (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) ثم أقسم تعالى فقال (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَ) في الآخرة (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي تكذبون به في دار الدنيا لتلزموا به الحجة ، وتعاقبوا بعد اعترافكم على أنفسكم ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من جهالاتهم فقال : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) أي ويضيفون إليه البنات وهو قولهم : الملائكة بنات الله كما قال سبحانه : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً). ثم نزّه سبحانه نفسه عما قالوا فقال (سُبْحانَهُ) أي تنزيها له عن اتخاذ البنات (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون ويحبّونه من البنين دون البنات (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أي واذا بشر واحد منهم بأنه ولد له بنت (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي صار لون وجهه متغيرا إلى السواد لما يظهر فيه من أثر الحزن والكراهة (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي ممتلىء غيظا وحزنا (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) يعني ان هذا الذي بشر بالبنت يستخفي من القوم الذين يستخبرونه عما ولد له استنكافا منه ، وخجلا وحياء من سوء ما بشر من الأنثى وقبحه عنده (أَيُمْسِكُهُ