يخلو ممن يكون قوله حجّة على أهل عصره ، وهو عدل عند الله تعالى ، وهو قول الجبائي وأكثر أهل العدل ، وهو يوافق ما ذهب إليه أصحابنا (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد (شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) يريد على قومك وأمتك ، وإنما أفرده بالذكر تشريفا له. وتم الكلام ههنا ثم قال سبحانه (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) يعني القرآن (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا لكل أمر مشكل ومعناه : ليبين كل شيء يحتاج إليه من أمور الشرع فإنه ما من شيء يحتاج الخلق إليه في أمر من أمور دينهم إلا وهو مبين في الكتاب أما بالتنصيص عليه ، أو بالإحالة على ما يوجب العلم من بيان النبي (ص) والحجج القائمين مقامه ، أو إجماع الأمة ، فيكون حكم الجميع في الحاصل مستفادا من القرآن (وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي ونزلنا عليك القرآن دلالة الى الرشد ، ونعمة على الخلق لما فيه من الشرائع والأحكام ، ولأنه يؤدي الى نعم الآخرة (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي بشارة لهم بالثواب الدائم ، والنعيم المقيم (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) وهو الإنصاف بين الخلق ، والتعامل بالإعتدال الذي ليس فيه ميل ولا عوج (وَالْإِحْسانِ) الى الناس وهو التفضل ، ولفظ الإحسان جامع لكل خير ، والأغلب عليه استعماله في التبرع بإيتاء المال ، وبذل السعي الجميل (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) المراد بذي القربى قرابة النبي (ص) (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) الفحشاء ما يفعله الإنسان في نفسه من القبيح مما لا يظهره ، والمنكر : ما يظهره للناس مما يجب عليهم إنكاره ، والبغي : ما يتطاول به من الظلم لغيره (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) معناه : يعظكم بما تضمنت هذه الآية من مكارم الأخلاق لكي تتذكروا وتتفكروا وترجعوا الى الحق.
٩١ ـ ٩٤ ـ لمّا تقدّم ذكر الأمر بالعدل والإحسان ، والنهي عن المنكر والعدوان ، عقّب سبحانه بالأمر بالوفاء بالعهد ، والنهي عن نقض الإيمان فقال (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) العهد الذي يجب الوفاء به ، والوعد هو الذي يحسن فعله (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) هذا نهي منه سبحانه عن نكث الأيمان وهو أن ينقضها بمخالفة موجبها ، وارتكاب ما يخالف عقدها وقوله : (بَعْدَ تَوْكِيدِها) : أي بعد عقدها وإبرامها وتوثيقها بإسم الله تعالى (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) كفيلا بالوفاء ، وذلك ان من حلف بالله فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من نقض العهد والوفاء به ، فإياكم أن تلقوه وقد نقضتم (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) أي لا تكونوا كالامرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد امرار وفتل للغزل ، وهي امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها الى انتصاف النهار ثم تأمرهن ان ينقضن ما غزلن ، ولا يزال ذلك دأبها (أَنْكاثاً) جمع نكث وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم ثم ينكث وينقض ليغزل ثانية (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي دخلا وخيانة ومكرا ، وذلك انهم كانوا يخلفون في عهودهم ويضمرون الخيانة (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي لا تنقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم ، وأمة أعلى من أمة وتقديره : ولا تنكثوا أيمانكم متخذيها دغلا وغدرا وخديعة لمداراتكم قوما هم أكثر عددا ممن حلفتم له ، ولقلتكم وكثرتهم ، بل عليكم الوفاء بما حلفتم ، والحفظ لما عاهدتم عليه (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أي إنما يختبركم الله بالأمر بالوفاء (وَلَيُبَيِّنَنَ) أي وليفصلن (لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ) أي في صحته (تَخْتَلِفُونَ) وليظهرن لكم حكمه حتى يعرف الحق من الباطل (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي لجعلكم مهتدين ، يعني به مشيئة القدر كما قال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) بالخذلان ، أو بالحكم عليه بالضلال (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق وبالحكم عليه بالهداية وقد ذكرنا معاني الضلال والهدى في سورة البقرة (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الطاعات والمعاصي فستجازون على كل منهما