٥٩ ـ ثم أمر الله سبحانه رسوله بحجاجهم فقال : (قُلْ) يا محمد (يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) أي هل تسخطون منا (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) فوحدناه ووصفناه بما يليق به من الصفات العلى ، ونزهناه عما لا يجوز عليه في ذاته وصفاته (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) على الأنبياء (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) أي إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على الحق لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم الرئاسة وكسبكم بها الأموال.
٦٠ ـ ثم أمر سبحانه نبيه (ص) أن يخاطبهم فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المستهزئين من الكفار واليهود (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي هل أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) أي بشر مما نقمتم من إيماننا ثوابا : أي جزاء ، المعنى : ان كان ذلك عندكم شرا فأنا أخبركم بشر منه عاقبة عند الله (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أي أبعده من رحمته (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) بفسقه وكفره ، وغضبه عليه : أراد به العقوبة والاستخفاف به (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) أي مسخهم قردة وخنازير ، قال المفسرون : يعني بالقردة أصحاب السبت ، وبالخنازير كفار مائدة عيسى (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ومن عبد الطاغوت والطاغوت : هنا الشيطان لأنهم أطاعوه (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) أي هؤلاء الذين وصفهم الله بأنه لعنهم وغضب عليهم وانهم عبدوا الطاغوت شر مكانا في عاجل الدنيا وآجل الآخرة أما في الدنيا فبالقتل والسبي وضرب الذلة والمسكنة عليهم ، والزام الجزية ، وأما في الآخرة فبعذاب الأبد (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي أجوز عن الطريق المستقيم ، وأبعد من النجاة ، قال المفسرون : فلما نزلت هذه الآية غير المسلمون أهل الكتاب وقالوا : يا إخوان القردة والخنازير ، فنكسوا رؤوسهم وافتضحوا.
٦١ ـ ٦٣ ـ (وَإِذا جاؤُكُمْ) أيها المؤمنون (قالُوا آمَنَّا) أي صدقنا (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) معناه : وقد دخلوا به في أحوالهم وخرجوا به إلى أحوال أخر ، وقوله : (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أكد الكلام بالضمير تعيينا إياهم بالكفر ، وتمييزا لهم من غيرهم بهذه الصفة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) معناه : بما كانوا يكتمون من نفاقهم إذ أظهروا بألسنتهم ما أضمروا خلافه في قلوبهم. ثم بيّن الله سبحانه انهم يضمّون إلى نفاقهم خصالا أخر ذميمة فقال : (وَتَرى) يا محمد (كَثِيراً مِنْهُمْ) قيل : المراد بالكثير رؤساؤهم وعلماؤهم (يُسارِعُونَ) يبادرون (فِي الْإِثْمِ) كل معصية (وَالْعُدْوانِ) الظلم ، أي يسارعون في ظلم الناس ، وفي الجرم الذي يعود عليهم بالوبال والخسران (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي الرشوة في الحكم وسماها سحتا لأنه يؤدي إلى الإستئصال ويقال : لأنّها تذهب بالبركة من المال (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لبئس العمل عملهم (لَوْ لا يَنْهاهُمُ) أي هلا ينهاهم ، والكناية في هم تعود إلى الكثير (الرَّبَّانِيُّونَ) أي علماء أهل الإنجيل (وَالْأَحْبارُ) علماء أهل التوراة (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) عن كل ما قالوه بخلاف الحق (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي الحرام والرشوة (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي لبئس الصنع صنعهم حيث اجتمعوا على معصية الله وفي هذه الآية دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه.
٦٤ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي مقبوضة عن العطاء ، ممسكة عن الرزق ، فنسبوه إلى البخل (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) معناه جعلوا بخلاء والزموا البخل ، فهم أبخل قوم فلا يلفى يهودي أبدا غير لئيم بخيل (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) أي ابعدوا عن رحمة الله وثوابه بسبب هذه المقالة ثم رد الله عليهم بضد مقالتهم فقال : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) أي ليس الأمر على ما وصفوه ، بل هو جواد فليس لذكر اليد هنا معنى غير إفادة معنى