أقواله وأفعاله ما يدل على الجنون (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما هو إلّا معلم موضع المخافة ليتقى ، ولموضع الأمن ليجتبى ، ومعنى مبين : بيّن أمره وقيل : مبين لهم عن الله أمره فيهم ثم قال : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) معناه : أو لم يتفكروا؟ (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وعجيب صنعهما فينظروا فيهما نظر المستدل المعتبر ، فيعترفوا بأن لهما خالقا مالكا ، ويستدلوا بذلك عليه (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي وينظروا فيما خلق الله من أصناف خلقه فيعلموا بذلك أنه سبحانه خالق جميع الأجسام ، فإن في كل شيء خلق الله عزوجل دلالة واضحة على اثباته وتوحيده (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي أو لم يتفكّروا وينظروا في ان عسى أن يكون قد قرب أجلهم ، وهو أجل موتهم فيدعوهم ذلك إلى أن يحتاطوا لدينهم ولأنفسهم مما يصيرون إليه بعد الموت من أمور الآخرة ، ويزهدوا في الدنيا وفيما يطلبونه من فخرها وشرفها وعزها ومعناه : لعل أجلهم قريب وهم لا يعلمون (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) مع وضوح الدلالة على أنه كلام الله المعجز إذ لم يقدر أحد منهم أن يأتي بسورة مثله (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) قد ذكرنا معناه (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) معناه : ونتركهم في ضلالتهم يتحيرون. والعمه في القلب كالعمى في العين.
١٨٧ ـ لما تقدم الوعيد بالساعة سألوا عن وقتها فقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنِ السَّاعَةِ) هي القيامة ، وهو وقت قيام الناس في الحشر (أَيَّانَ مُرْساها) أي متى وقوعها وكونها؟ (قُلْ) يا محمد (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي إنما علم وقت قيامها ومجيئها عند الله تعالى لم يطلع عليه أحد من خلقه ، وإنما لم يخبر سبحانه بوقتها ليكون العباد على حذر منه فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة ، وازجر عن المعصية (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي لا يظهرها ، ولا يكشف عن علمها ، ولا يبين وقتها إلّا هو ، فلا يعلم أحد سواه متى يكون وقتها (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ثقل علمها على أهل السماوات والأرض ، لأن من خفي عليه علم شيء كان ثقيلا عليه (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي فجأة لتكون أعظم وأهول (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) معناه : يسألونك عنها كأنك حفي بها : أي عالم بها (قُلْ) يا محمد (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) لا يعلمها إلّا هو وإنما أعاد سبحانه هذا القول لأنه وصله بقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وقيل أراد بالأول علم وقت قيامها ، وبالثاني علم كيفيتها وهيأتها وتفصيل ما فيها.
١٨٨ ـ (قُلْ) يا محمد (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يملكني إياه (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) لأدخرت من السنة المخصبة للسنة المجدبة ، ولاشتريت وقت الرخص لأيام الغلاء وقيل معناه : لاستكثرت من الأعمال الصالحة قبل حلول الأجل ولم اشتغل بغيرها ، ولاخترت الأفضل فالأفضل (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي وما أصابني الضر والفقر وقيل معناه : وما مسني سوء من جهة الأعداء لأني كنت أعلم ذلك فاتحرز منه (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) مخوف بالعذاب (وَبَشِيرٌ) مبشر بالثواب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) وإن كان ينذر غيرهم أيضا.
١٨٩ ـ ١٩٣ ـ لمّا تقدّم ذكر الله تعالى ذكر عقيبه ما يدل على وحدانيته فقال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) والخطاب لبني آدم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم (ع) (وَجَعَلَ) أي وخلق (مِنْها زَوْجَها) يعني حواء (لِيَسْكُنَ) آدم (إِلَيْها) ويأنس بها (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي جامعها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) وهو الماء الذي