محمد آية من ربّة تضطرّ الخلق إلى المعرفة بصدقه (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) معناه : يا محمد إن الذي يعلم الغيب ويعلم مصالح الأمور قبل كونها هو الله لا تخفى عليه خافية فيعلم ما في انزاله صلاح فينزله ، ويعلم ما ليس في انزاله صلاح فلا ينزله ، ولذلك لا يفعل الآية التي اقترحوها في هذا الوقت لما في ذلك من حسن تدبير (فَانْتَظِرُوا) أي فانتظروا عقاب الله تعالى بالقهر والقتل في الدنيا ، والعقاب في الآخرة (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لأن الله تعالى وعدني النصرة عليكم.
٢١ ـ ٢٣ ـ ثم أخبر سبحانه عن ذميم فعالهم فقال (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) يريد بالناس الكفار ، فهو عموم يراد به الخصوص (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) أي راحة ورخاء بعد شدة وبلاء ، وحقيقة الذوق فيما له طعم يوجد إنما يكون طعمه بالفم ، وإنما قال : اذقناهم الرحمة على طريق البلاغة لشدة ادراك الحاسّة إياها (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) أي فهم يحتالون لدفع آياتنا بكل ما يجدون السبيل إليه من شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة وقال مجاهد : مكرهم استهزاؤهم وتكذيبهم (قُلِ) يا محمد لهم (اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي أقدر جزاء على المكر ومعناه : ان ما يأتيهم من العقاب أسرع مما أتوه من المنكر (إِنَّ رُسُلَنا) يعني الملائكة الحفظة (يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) أي ما تدبّرون من سوء التدبير ، وفي هذا غاية الزجر والتهديد من وجهين (أحدهما) انه يحفظ مكرهم (والآخر) انه أقدر على جزائهم وأسرع فيه. ثم امتن الله سبحانه على خلقه بأن عدّد نعمه التي يفعلها بهم في كل حال فقال (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي يمكنكم من المسير في البر والبحر بما هيأ لكم من آلات السير وهي خلق الدواب وتسخيرها لكم لتركبوها في البر ، وتحملوا عليها أثقالكم ، وهيّأ السفن في البحر ، وإرسال الرياح المختلفة التي تجري بالسفن في الجهات المختلفة (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) خصّ الخطاب براكب البحر ، أي إذا كنتم راكبي السفن في البحر (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) أي وجرت السفن بالناس لما ركبوها (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي بريح لينة يستطيبونها (وَفَرِحُوا بِها) أي سرّوا بتلك الريح لأنها تبلغهم مقصودهم (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) أي جاءت السفينة ريح عاصف شديدة الهبوب الهائلة (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من البحر والموج : اضطراب البحر ومعناه : وجاء راكبي البحر الأمواج العظيمة من جميع الوجوه (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي ايقنوا أنهم دنوا من الهلاك (دَعَوُا اللهَ) عند هذه الشدائد والأهوال ، والتجأوا إليه ليكشف ذلك عنهم (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي على وجه الإخلاص في الاعتقاد ، ولم يذكروا الأوثان والأصنام لعلمهم بأنها لا تنفعهم ههنا شيئا وقالوا (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) يا رب (مِنْ هذِهِ) الشدة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي من جملة من يشكرك على نعمك وقوله : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) جواب قوله : (إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) وقوله : (دَعَوُا اللهَ) جواب قوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) أي خلصهم الله تعالى من تلك المحن (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي يعملون فيها بالمعاصي والفساد ، ويشتغلون بالظلم على الأنبياء وعلى المسلمين (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي بغي بعضكم على بعض وما ينالونه به متاع في الدنيا ، وإنما تأتونه لحبكم العاجلة وإيثارها على ما يقرب إلى الله تعالى من الطاعات ، وقد مرّ بيانه قبل (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) في الآخرة (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي نخبركم بأعمالكم لأنا اثبتناها عليكم ، وهي كلمة تهديد ووعيد.
٢٤ ـ ٢٥ ـ لما تقدّم ما يوجب الترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا عقّبه سبحانه بذكر صفة الدارين فقال (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صفة الحياة الدنيا ، أو شبه الحياة الدنيا في