كادت أن تبين مفاصلهم ، وخاف موسى عليهم الموت فبكى ودعا ، وخاف أن يتّهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم ، ولم يصدّقوه بأنهم ماتوا (قالَ) أي قال موسى (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أي لو شئت اهلكت هؤلاء السبعين من قبل هذا الموقف وأهلكتني معهم ، فالآن ماذا أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) معناه النفي وإن كان بصورة الإنكار ، والمعنى : انك لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا ، فبهذا نسألك رفع المحنة والاهلاك عنا ، وما فعله السفهاء هو : عبادة العجل (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) معناه : إن الرجفة إلّا اختبارك وابتلاؤك ومحنتك ، أي تشديدك التعبد والتكليف علينا بالصبر على ما انزلته بنا (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) أي تصيب بهذه الرجفة من تشاء ، وتصرفها عمن تشاء (أَنْتَ وَلِيُّنا) معناه : أنت ناصرنا والأولى بنا تحوطنا وتحفظنا (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أي خير الساترين على عباده ، والمتجاوزين لهم عن جرمهم.
١٥٦ ـ هذا تمام ما قاله موسى في دعائه : (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) سأل الله سبحانه أن يكتب لهم الحسنة في الدنيا وهي النعمة (وَفِي الْآخِرَةِ) معناه : واكتب لنا في الآخرة حسنة أيضا كما في قوله : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي رجعنا بتوبتنا إليك ، والهود : الرجوع (قالَ) الله تعالى مجيبا لموسى (ع) (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ممن عصاني واستحقه بعصيانه ، وإنما علّقه بالمشيئة لجواز الغفران (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) قال الحسن وقتادة : ان رحمته في الدنيا وسعت البرّ والفاجر ، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي فسأوجب رحمتي للذين يجتنبون الكبائر والمعاصي (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يخرجون زكاة أموالهم لأنه من أشق الفرائض (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي بحججنا وبيناتنا يصدّقون.
١٥٧ ـ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) أي يؤمنون به ويعتقدون بنبوته ، يعني نبينا محمد (ص) الذي لا يكتب ولا يقرأ (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) معناه : يجدون نعته وصفته ونبوته مكتوبا في الكتابين ، لأنه مكتوب في التوراة في السفر الخامس ، اني سأقيم لهم نبيا من أخوتهم مثلك ، واجعل بشارة كلامي في فيه فيقول لهم كل ما أوصيه به ، وفي الإنجيل بشارة بالفار قليط في مواضع منها : نعطيكم فار قليط آخر يكون معكم آخر الدهر كله ، وفيه أيضا قول المسيح للحواريين : أنا اذهب وسيأتيكم الفار قليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه ، إنه نذيركم بجميع الحق ، ويخبركم بالأمور المزمعة ، ويمدحني ويشهد لي ، وفيه أيضا : انه إذا جاء فنّد أهل العالم (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) والمعروف : الحق ، والمنكر : الباطل ، لأن الحق معروف الصحة في العقول : والباطل منكر الصحة في العقول (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) معناه : يبيح لهم المستلذات الحسنة ، ويحرم عليهم القبائح وما تعافه الأنفس (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي ثقلهم. شبّه ما كان على بني إسرائيل من التكليف الشديد بالثقل (وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) معناه : ويضع عنهم العهود التي كانت في ذمتهم ، وجعل تلك العهود بمنزلة الأغلال التي تكون في الأعناق للزومها كما يقال : هذا طوق في عنقك (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) أي بهذا النبي وصدقوه في نبوته (وَعَزَّرُوهُ) أي عظّموه ووقّروه ومنعوا عنه اعداءه (وَنَصَرُوهُ) عليهم (وَاتَّبَعُوا النُّورَ) معناه : القرآن الذي هو نور في القلوب ، كما أن الضياء نور في العيون ، ويهتدي به الخلق في أمور الدين كما يهتدون بالنور