مقطوع عليه لأنه لم يعلم ما يؤل إليه عاقبة أمرهم من إيمان أو كفر ، وهذا لطف في الاستدعاء ، وأقرب إلى الإجابة في الغالب (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي من قوم نوح لنوح (ع) (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) ظنا منهم أن الرسول إنما يكون من غير جنس المرسل إليه ، ولم يعلموا أن البعثة من الجنس قد تكون أصلح ، ومن الشبهة أبعد (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) أي لم يتبعك الملأ والأشراف والرؤساء منا وإنما اتبعك اخساؤنا الذين لا مال لهم ولا جاه (بادِيَ الرَّأْيِ) أي في ظاهر الأمر والرأي ، لم يتدبروا ما قلت ، ولم يتفكروا فيه وقال الزجاج معناه اتبعوك في الظاهر وباطنهم على خلاف ذلك ومن قرأ بالهمز فالمعنى أنهم اتبعوك ابتداء الرأي أي حين ابتدأوا ينظرون ولو فكّروا لم يتبعوك وقيل معناه ان في مبتدأ وقوع الرؤية عليهم يعلم أنهم ارذالنا واسافلنا (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي وما نرى لك ولقومك علينا من فضل ، فإن الفضل إنما يكون في كثرة المال والمنزلة في الدنيا ، والشرف في النسب ، وإنما قالوا ذلك لأنهم جهلوا طريقة الاستدلال ولو استدلوا بالمعجزات الدالة على نبوته لعلموا أنه نبي ، وأن من آمن به مؤمن ، ومن خالفه كافر ، وعرفوا حقيقة الفضل وهكذا عادة أرباب الدنيا يستحقرون أرباب الدين إذا كانوا فقراء ، ويستذلونهم وإن كانوا هم الأكرمين الأفضلين عند الله سبحانه (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) هذا تمام الحكاية عن كفار قوم نوح قالوه لنوح ومن آمن به (قالَ) نوح لقومه (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على برهان وحجة يشهد بصحة النبوة وهي المعجزة فإن الواجب اتباع الحجة والدلالة (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) ردّ عليهم بهذا جميع ما ادّعوه ، والرحمة والنعمة هي هاهنا النبوة (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي خفيت عليكم لقلة تدبركم فيها (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أتريدون منّي أن أكرهكم إلى المعرفة ، وألجئكم اليها على كره منكم؟ هذا غير مقدور لي.
٢٩ ـ ٣١ ـ (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) أي لا أطلب منكم على دعائكم إلى الله أجرا فتمتنعون من إجابتي خوفا من أخذ المال (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي ما ثوابي وما أجري في ذلك إلّا على الله (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي لست اطرد المؤمنين من عندي ولا ابعدهم على وجه الإهانة وقيل : انهم كانوا سألوه طردهم ليؤمنوا له انفة من أن يكونوا معهم على سواء عن ابن جريج والزجاج (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) وهذا يدل على انهم سألوه طردهم وأعلمهم أنه لا يطردهم لأنهم ملاقوا ربهم فيجازي من ظلمهم وطردهم بجزائه من العذاب وقيل معناه : انهم ملاقوا ثواب ربهم فكيف يكونون ارذال وكيف يجوز طردهم وهم لا يستحقون ذلك (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) الحق وأهله وقيل معناه : تجهلون أن الناس إنما يتفاضلون بالدين لا بالدنيا وقيل تجهلون فيما تسألون من طرد المؤمنين (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) معناه : من يمنعني من عذاب الله إن أنا طردت المؤمنين فكانوا خصمائي عند الله في الآخرة (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتفكرون فتعلمون أن الأمر على ما قلته (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) هذا تمام الحكاية عما قاله لقومه ومعناه اني لا أرفع نفسى فوق قدرها فأدّعي أن عندي مقدورات الله تعالى فأفعل ما أشاء ، وأعطي ما أشاء ، وأمنع من اشاء (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي ولا ادّعي علم الغيب حتى أدلّكم على منافعكم ومضاركم (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) فأخبركم بخبر السماء من قبل نفسي وإنما أنا بشر لا أعلم الأشياء من غير تعليم الله تعالى (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) أي لا أقول لهؤلاء المؤمنين الذين تستقلّونهم وتحقرهم أعينكم لما ترون عليهم من زي الفقراء (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) أي لا يعطيهم الله في المستقبل خيرا على أعمالهم ولا يثيبهم عليها ، بل أعطاهم الله كل خير في الدنيا من التوفيق ، ويعطيهم كل خير في الآخرة من الثواب (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) أي بما في قلوبهم من الإخلاص