الساعة على العصر الأخير فلا يخلفه عصر ، وهذا لا يكون إلا من عالم مدبر (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) في الرزق وقيل : في الصورة والعقل والعمر والمال والقوة (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ليختبركم فيما أعطاكم ، أي يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل ، وانتفاء من الظلم ومعناه : لينظر لغني إلى الفقير فيشكر ، وينظر الفقير إلى الغني فيصبر ، ويفكر العاقل في الأدلة فيعلم ويعمل بما يعلم (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) إنما وصف نفسه بذلك مع ان عقابه في الآخرة من حيث ان كل ما هو آت قريب ، فهو إذا سريع وقيل معناه : أنه سريع العقاب بمن استحقّه في دار الدنيا ، فيكون نحذيرا لمواقع الخطيئة على هذه الجهة وقيل معناه : أنه قادر على تعجيل العقاب فاحذروا معاجلته بالهلاك في الدنيا (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) قابل سبحانه بين العقاب والغفران ولم يقابل بالثواب لأن ذلك أدعى إلى الإقلاع عما يوجب العقاب ، لأنه لو ذكر الثواب لجاز أن يتوهم أنه لمن لم يكن منه عصيان.
سورة الأعراف
مكية وآياتها ست ومائتان
لما ختم الله سبحانه سورة الأنعام بالرحمة افتتح هذه السورة بأنه أنزل كتابا فيه معالم الدين والحكمة فقال :
١ ـ ٣ ـ (المص) مضى تفسيره وما قيل فيه (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي هذا الذي أوحيته إليك كتاب أنزل إليك ، أي أنزله الملائكة إليك بأمر الله تعالى : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) معناه : فلا يضيقن صدرك من قومك أن يكذبوك ويجبهوك بالسوء فيما أنزل إليك كما قال سبحانه : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي بالقرآن (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي كن على انشراح صدر بالإنذار ومعناه : التخوف بوعده ووعيده وأمثاله وأمره ونهيه ، وليذكّروا بما فيه ، وإنما خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به ، ثم خاطب الله سبحانه المكلفين فقال : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) قل لهم يا محمد : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ، ويدخل فيه الواجب والندب والمباح ، لأنه يجب أن يعتقد في كل منها ما أمر الله سبحانه به ، كما يجب أن يعتقد في الحرام وجوب اجتنابه (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله ، لأن من لا يتبع القرآن صار متبعا لغير الله من الشيطان والأوثان ، فأمر سبحانه باتباع القرآن ، ونهى عن اتباع الشيطان ليعلموا أن اتباع القرآن اتباع له سبحانه (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي قليلا يا معشر المشركين تذكركم واتعاظكم ، وهذا استبطاء في التذكر وخرج مخرج الخبر والمراد به الأمر ، فمعناه : تذكروا كثيرا ما يلزمكم من أمر دينكم ، وما أوجبه الله عليكم ، ومعنى التذكر أن يأخذ في الذكر شيئا بعد شيء مثل التفقه والتعليم.
٤ ـ ٥ ـ لما تقدم الأمر منه سبحانه للمكلفين باتباع القرآن ، والتحذير من مخالفته ، عقّب ذلك بتذكيرهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب ، وتحذيرهم أن ينزل بهم ما نزل بأولئك فقال : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي من أهل قرية (أَهْلَكْناها) بعذاب الاستئصال (فَجاءَها بَأْسُنا) أي عذابنا (بَياتاً) بالليل (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي في وقت القيلولة وهي نصف النهار (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) أي لم يكن دعاء هؤلاء الذين أهلكناهم عقوبة لهم على معاصيهم وكفرهم في الوقت الذي جاءهم شدة عذابنا (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) يعني اعترافهم بذلك على نفوسهم ، وإقرارهم به ، وهذا القول كان