كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر ولا يدخلونها إلّا بجوازهم (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي رفعهما على سرير ملكه إعظاما لهما ، والعرش : السرير الرفيع (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) ان السجود كان لله تعالى شكرا له كما يفعله الصالحون عند تجدد النعم ، والهاء في قوله : له عائدة إلى الله تعالى أي سجدوا لله تعالى على هذه النعم ، وتوجّهوا في السجود إليه كما يقال : صلّى للقبلة ويراد به استقبالها (وَقالَ) يوسف (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) أي هذا تفسير رؤياي التي رأيتها (مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي صدقا في اليقظة وقيل : كان بين الرؤيا وتأويلها ثمانون سنة ، وكان بين يوسف وبين موسى أربعمائة سنة (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) أي وقد أحسن ربي إليّ حيث أخرجني من السجن (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي من البادية فإنهم كانوا يسكنون البادية ويرعون أغنامهم فيها ، وكانت مواشيهم قد هلكت في تلك السنين بالقحط فأغناهم الله تعالى بمصيرهم إلى يوسف ، وإنما بدأ بالسجن في تعداد نعم الله دون إخراجه من الجب كرما لئلا يبدأ بصنيع إخوته به (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي وحرش بيني وبينهم (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي لطيف في تدبير عباده يدبّر أمرهم على ما يشاء ، ويسهّل لهم العسير ، وبلطفه حصلت هذه النعم علينا من الإجتماع وغيره (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بجميع الأشياء (الْحَكِيمُ) في كل التدابير ولما جمع الله سبحانه ليوسف شمله ، وأقرّ له عينه ، وأتمّ له رؤياه ، ووسع عليه في ملك الدنيا ونعيمها ، علم أن ذلك لا يبقى له ولا يدوم ، فطلب من الله سبحانه نعيما لا يفنى ، وتاقت نفسه إلى الجنة ، فتمنى الموت ودعا به ولم يتمن ذلك نبي قبله ولا بعده (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي أعطيتني ملك النبوة ، وملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي تأويل الرؤيا (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالق السماوات والأرض ومنشئهما لا على مثال سبق (أَنْتَ وَلِيِّي) أي ناصري ومدبّري وحافظي (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) تتولى فيهما إصلاح معاشي ومعادي (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) معناه : ثبتني على الإيمان إلى وقت الممات وأمتني مسلما (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي بأهل الجنة من الأنبياء والأولياء والصديقين وقيل : لما جمع الله سبحانه بينه وبين أبويه وإخوته أحب أن يجتمع مع آبائه في الجنة فدعا بهذا الدعاء ، والمعنى : ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم قيل : فتوفاه الله تعالى بمصر وهو نبي. ثم عاد سبحانه بعد تمام القصة إلى خطاب النبي (ص) (ذلِكَ) أي الذي قصصت عليك من قصة يوسف يا محمد (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من جملة أخبار الغيب (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) على ألسنة الملائكة لتخبر به قومك ، ويكون دلالة على صدقك (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي وما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) إذ عزموا على إلقائه في البئر واجتمعت آراؤهم عليه (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) أي يحتالون في أمر يوسف حتى القوه في الجب.
١٠٣ ـ ١٠٧ ـ لمّا تقدّم ذكر الآيات والمعجزات التي لو تفكروا فيها عرفوا الحق من جهتها فلم يتفكروا ، بيّن عقيبها أن التقصير من جهتهم حيث رضوا بالجهل وليس من جهته سبحانه لأنه نصب الأدلة والبينات ، ولا من جهتك لأنك دعوتهم فقال (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) أي وليس أكثر الناس بمصدقين ولو حرصت على إيمانهم وتصديقهم ، واجتهدت في دعائهم وإرشادهم إليه ، لأن حرص الداعي لا يغني شيئا إذا كان المدعو لا يجيب (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي ولا تسألهم على تبليغ الرسالة وبيان الشريعة أجرا فيصدّهم ذلك عن القبول ، ويمنعهم من الإيمان (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما القرآن إلّا موعظة وعبرة