تستجهلونا (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيّنا أحق بالسخرية (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) أي فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يهينه ويفضحه في الدنيا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي وينزل عليه عذاب دائم في الآخرة.
٤٠ ـ ٤٣ ـ ثم أخبر سبحانه عن اهلاك قوم نوح فقال (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) والمعنى : فذلك حاله وحالهم حتى إذا جاء قضاؤنا بنزول العذاب (وَفارَ التَّنُّورُ) بالماء ، أي ارتفع الماء بشدة اندفاع (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي قلنا لنوح (ع) لما فار الماء من التنور : احمل في السفينة من كل جنس من الحيوان زوجين : أي ذكر وانثى (وَأَهْلَكَ) أي واحمل أهلك وولدك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي من سبق الوعد باهلاكه والإخبار بأنه لا يؤمن وهي امرأته الخائنة واسمها واغلة وابنها كنعان (وَمَنْ آمَنَ) أي واحمل فيها من آمن بك من غير أهلك. ثم أخبر سبحانه فقال (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) أي إلّا نفر قليل وهم ثمانون (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) أي وقال نوح لمن آمن معه : اركبوا في السفينة (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) قائلين : بسم الله وقت اجرائها ووقت ارسائها : أي اثباتها وحبسها (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا حكاية عما قاله نوح لقومه ، ووجه اتصاله بما قبله : انه لما ذكرت النجاة بالركوب في السفينة ذكرت النعمة بالمغفرة والرحمة لتجتلبا بالطاعة كما اجتلبت النجاة بركوب السفينة (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) معناه : ان السفينة كانت تجري بنوح ومن معه على الماء في أمواج كالجبال في عظمتها وارتفاعها ، ودل بتشبيهها بالجبال على أن ذلك لم يكن موجا واحدا بل كان كثيرا (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) كنعان (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) أي في قطعة من الأرض غير القطعة التي كان نوح فيها حين ناداه ، وكان نوح يظن أنه مسلم فلذلك دعاه (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) دعا ابنه إلى أن يركب معه في السفينة ، دعاه ليسلمه من الغرق قال أبو مسلم : دعاه بشرط الإيمان ومعناه : يا بني آمن بالله ثم اركب معنا ، ولا تكن على دين الكافرين (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ) أي سأرجع إلى مأوى من جبل (يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي يمنعني من آفات الماء (قالَ) نوح (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي لا مانع ولا دافع اليوم من عذاب الله إلّا من رحمهالله بايمانه ، فآمن بالله يرحمك الله (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ) أي فصار (مِنَ الْمُغْرَقِينَ).
٤٤ ـ ثم بيّن سبحانه الحال بعد انتهاء الطوفان فقال (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) أي قال الله سبحانه للأرض انشفي ماءك الذي نبعت به العيون ، واشربي ماءك حتى لا يبقى على وجهك شيء منه ، وهذا اخبار عن ذهاب الماء عن وجه الأرض بأوجز مدة فجرى مجرى ان قيل لها : ابلعي فبلعت (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أي وقال تعالى للسماء : يا سماء أمسكي عن المطر ، وهذا اخبار عن اقشاع السحاب ، وانقطاع المطر في أسرع زمان فكأنه قال لها : اقلعي فأقلعت (وَغِيضَ الْماءُ) أي ذهب به عن وجه الأرض إلى باطنه والمعنى : ونشفت الأرض ماءها (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي وقع اهلاك الكفار على التمام ، وفرغ من الأمر (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) أي استقرت السفينة على الجبل المعروف (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قال الله تعالى ذلك ومعناه : أبعد الله الظالمين من رحمته لإيرادهم أنفسهم مورد الهلاك. وفي هذه الآية من بدائع الفصاحة ، وعجائب البلاغة ما لا يقاربه كلام البشر ولا يدانيه ، منها : انه خرج مخرج الأمر وإن كانت الأرض والسماء من الجماد ليكون أدل على الإقتدار ، ومنها : حسن تقابل المعنى ، وائتلاف الألفاظ ، ومنها : حسن البيان في تصوير الحال ، ومنها الإيجاز من غير اخلال ، إلى غير ذلك مما يعلمه من تدبّره وله معرفة بكلام العرب ومحاوراتهم ، ويروى ان كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البر ، ولحوم الضأن وسلاف الخمر ، أربعين يوما لتصفوا أذهانهم ، فلما