دُعائِي إِلَّا فِراراً) (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) عن ذكرنا أي ولى كأنه لم يقبل علينا بالدعاء والإبتهال (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي بعد بنفسه عن القيام بحقوق انعامنا فلا يشكره كما عرض عن النعمة بالقرآن (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) معناه : وإذا أصابه المحنة والشدة أو الفقر لم يصبر وكان قنوطا من رجاء الفرج من الله بخلاف المؤمن الذي يرجو الفرج والروح (قُلْ) يا محمد لهم (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي كل واحد من المؤمن والكافر يعمل على طبيعته وخليقته التي تخلق بها (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أي أنه يعلم أي الفريقين على الهدى ، وأيهما على الضلالة ، وقيل معناه : انه أعلم بمن هو أصوب دينا ، وأحسن طريقا.
٨٥ ـ ٨٩ ـ ثم قال سبحانه لنبيه (ص) (وَيَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنِ الرُّوحِ) ان اليهود قالت لكفار القريش : سلوا محمدا عن الروح فإن أجابكم فليس بنبي ، وإن لم يجبكم فهو نبي ، فإنا نجد في كتبنا ذلك ، فأمر الله سبحانه بالعدول عن جوابهم وأن يكلهم في معرفة الروح إلى ما في عقولهم ليكون ذلك علما على صدقه ، ودلالة لنبوته (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي من فعله وخلقه وكان هذا جوابا لهم عما سألوه عنه بعينه (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) هو خطاب للنبي (ص) وغيره إذ لم يبين لهم الروح ومعناه : وما أوتيتم من العلم المنصوص عليه إلّا قليلا ، أي شيئا يسيرا لأن غير المنصوص عليه أكثر ، فإن معلومات الله تعالى لا نهاية لها (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يعني القرآن ، ومعناه : اني أقدر أن آخذ ما أعطيتك كما منعت غيرك ولكني دبرتك بالرحمة لك ، فأعطيتك ما تحتاج إليه (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) أي ثم لو فعلنا ذلك لم تجد علينا وكيلا يستوفي ذلك منا وقيل معناه ولو شئنا لمحونا هذا القرآن من صدرك وصدر أمتك حتى لا يوجد له أثر ثم لا تجد له حفيظا يحفظه عليك ويحفظ ذكره على قلبك عن الحسن وأبي مسلم والأصم ، قالوا وفي هذا دلالة على ان السؤال وقع عن القرآن (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) معناه : لكن رحمة من الله ربك لك أعطاك ما أعطاك من العلوم ، ومنعك ما منعك منها ، وأثبت القرآن في قلبك وقلوب المؤمنين (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ) فيما مضى وفيما يستقبل (عَلَيْكَ كَبِيراً) يريد حيث جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين ، وأعطاك المقام المحمود ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) معناه : قل يا محمد لهؤلاء الكفار : لئن اجتمعت الإنس والجن متعاونين متعاضدين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته ونظمه على الوجوه التي هو عليها من كونه في الطبقة العليا من البلاغة ، والدرة القصوى من حسن النظم ، وجودة المعاني ، وتهذيب العبارة ، والخلو من التناقض ، واللفظ المسخوط ، لعجزوا عن ذلك ولم يأتوا بمثله (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي معينا على ذلك مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه عن ابن عباس (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) معناه : ولقد بيّنا لهم في هذا القرآن من كل ما يحتاج إليه من الدلائل والأمثال والعبر والأحكام ، وما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم ليتفكروا فيها (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا للحق ، والمثل قد يكون الشيء بعينه وقد يكون صفة للشيء.
٩٠ ـ ٩٥ ـ لمّا بيّن سبحانه فيما تقدّم إعجاز القرآن ، عقّب ذلك البيان بأنهم أبوا إلّا الكفر والطغيان ، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم ذلك فقال (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي لن نصدقك فيما تدعي من النبوة (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ) أي تشقق لنا من أرض مكة فإنها قليلة الماء (يَنْبُوعاً) أي عينا ينبع منه الماء في وسط مكة (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) وهي ما تجنه الأشجار : أي تستره (مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ) من