الندامة ، أي اسرّ الندامة رؤساء الضلالة من الأتباع والسفلة والندامة : الحسرة على ما كان يتمنى انه لم يكن (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي فصل بينهم بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فيما يفعل بهم من العقاب لأنهم جنوه على أنفسهم (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له ملك السماوات والأرض وما فيهما فلا يقدر أحد على منعه من إحلال العقاب بمملوكه المستحق له (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ) باحلال العقاب بالمجرمين (حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) صحة ذلك لجهلهم به تعالى ، وبصحة ما أتى به النبي صلىاللهعليهوآله (هُوَ يُحْيِ) أي يحيى الخلق بعد كونهم أمواتا (وَيُمِيتُ) أي يميتهم بعد أن كانوا أحياء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة فيجازيهم على أعمالهم.
٥٧ ـ ٥٨ ـ لما تقدّم ذكر القرآن وما فيه من الوعد والوعيد عقّبه سبحانه بذكر جلالة موقع القرآن وعظم محله في باب الأدلة فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لجميع الخلق وتنبيه لهم (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن والموعظة : هي ما يدعو إلى الصلاح ، ويزجر عن الفساد (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) الشفاء معنى كالدواء وازلة الداء ، فداء الجهل أضرّ من داء البدن ، وعلاجه أعسر (وَهُدىً) أي ودلالة تؤدي إلى معرفة الحق (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ونعمة لمن تمسك به وعمل بما فيه ، وخصّ المؤمنين بالذكر وإن كان القرآن موعظة ورحمة لجميع الخلق لأنهم الذين انتفعوا به. وصف الله سبحانه القرآن في هذه الآية بأربع صفات بالموعظة والشفاء لما في الصدور وبالهدى والرحمة (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) معناه قل يا محمد بافضال الله وبنعمته ، فإنه يجوز اطلاق الفاضل على الله تعالى ، فوضع الفضل في موضع الافضال ، كما وضع الأنبات في قوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) ، في موضع الإنبات وقيل : إن الفضل إلى الله بمعنى الملك ، كما يضاف العبد إليه بأنه مالك له (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) قال الزجاج قوله بذلك بدل من قوله (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) وهو يدل على أنه يعني به القرآن ، أي فبذلك فليفرح الناس لأنه خير لكم يا أصحاب محمد مما في هذه الدنيا الفانية وقيل فضل الله هو القرآن والإسلام.
٥٩ ـ ٦١ ـ ثم أمر سبحانه نبيّه (ص) أن يخاطب كفار مكة فقال (قُلْ) يا محمد لهم (أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) فجعله حلالا (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) أي جعلتم بعضه حراما ، وبعضه حلالا. يعني ما حرّموا من السائبة والبحيرة والوصيلة ، ونحوها مما حرّموا من زروعهم ، وإنما قال : انزل الله تعالى لأن ارزاق العباد من المطر الذي ينزله الله (قُلْ) يا محمد لهم (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) ومعناه : انه لم يأذن لكم في شيء من ذلك بل أنتم تكذبون على الله (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي شيء يظن الذين يكذبون على الله أنه يصيبهم يوم القيامة على افترائهم على الله؟ أي لا ينبغي أن يظنوا أن يصيبهم على ذلك إلّا العذاب الشديد ، والعقاب الأليم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بما فعل بهم من ضروب الإنعام (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) نعمه ويجحدونها. وهذا الكلام خرج مخرج التقريع على افتراء الكذب وإن كان في صورة الاستفهام وتقديره : أيؤديهم افتراؤهم الكذب إلى خير أم شرّ وقيل : إن معنى قوله : (لَذُو فَضْلٍ) : إنه لم يضيق عليهم بالتحريم كما ادعيتم ذلك عليه وقيل معناه : انه لذو فضل على خلقه بترك معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا ، وإمهاله إياهم إلى يوم القيامة : ثم بيّن سبحانه أن إمهاله إياهم ليس بجهل بحالهم فقال : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي ما تكون أنت يا محمد في حال من الأحوال ، وفي أمر من أمور الدين من تبليغ الرسالة ، وتعليم الشريعة (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) وما تقرأ من الله من قرآن (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ