التوبة والتمسك بها ، والمسارعة إليها (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي يتقبلها ويضمن الجزاء عليها (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) عطف على ما قبله وقد مرّ تفسيره (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) هذا أمر من الله سبحانه لنبيه أن يقول للمكلفين اعملوا ما أمركم الله به عمل من يعلم أنه مجازا على فعله فإن الله سيرى عملكم ، ويراه رسوله فيشهد لكم بذلك عند الله تعالى ، ويراه المؤمنون ، وقيل : أراد بهم الملائكة الحفظة الذين يكتبون الأعمال (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي سترجعون إلى الله الذي يعلم السر والعلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويجازيكم عليه.
١٠٦ ـ ثم عطف سبحانه على ما قبله من قوله : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) فقال (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) أي مؤخرون موقوفون لما يرد من أمر الله تعالى فيهم (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) لفظة اما وقوع أحد الشيئين والله سبحانه عالم بما يصير إليه ولكنّه سبحانه خاطب العباد بما عندهم ومعناه : ولكن كان أمرهم عندكم على هذا ، أي على الخوف والرجاء ، وهذا يدل على صحة مذهبنا في جواز العفو عن العصاة لأنه سبحانه بيّن أن قوما من العصاة يكون أمرهم إلى الله تعالى إن شاء عذّبهم وإن شاء قبل توبتهم فعفا عنهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يؤول إلى حالهم (حَكِيمٌ) فيما يفعله بهم.
١٠٧ ـ ١١٠ ـ ثم ذكر سبحانه جماعة أخرى من المنافقين بنوا مسجدا (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) والمسجد موضع السجود في الأصل وصار بالعرف اسما لبقعة مخصوصة بنيت للصلاة (ضِراراً) أي مضارة ، يعني للضرر بأهل مسجد قباء ، أو مسجد الرسول (ص) ليقل الجمع فيه (وَكُفْراً) أي ولإقامة الكفر فيه بالطعن على رسول الله (ص) والإسلام (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي لاختلاف الكلمة ، وإبطال الإلفة ، وتفريق الناس عن رسول الله (ص) (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) أي ارصدوا ذلك المسجد واتخذوه واعدوا لأبي عامر الراهب وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل ، وكان من قصته أنه كان قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح ، فلما قدم النبي (ص) المدينة حسده وحزّب عليه الأحزاب ، ثم هرب بعد فتح مكة (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) معناه : أن هؤلاء يحلفون كاذبين ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الفعلة الحسنى (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) وكفى لمن يشهد الله سبحانه بكذبه خزيا ، فوجّه رسول الله (ص) عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني ، ومالك بن الدخشم فقال لهما : انطلقا إلى المسجد الظالم أهله فاهدماه واحرقاه ، ثم نهى الله سبحانه أن يقوم في هذا المسجد فقال (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) أي لا تصلّ فيه أبدا ثم أقسم فقال (لَمَسْجِدٌ) أي والله لمسجد (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) أي بني أصله على تقوى الله وطاعته (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أي منذ أول يوم وضع أساسه (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أي أولى بأن تصلّي فيه ، ثم وصف المسجد وأهله فقال (فِيهِ) أي في هذا المسجد الذي أسس على التقوى (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي يحبون أن يصلوا لله تعالى متطهرين بأبلغ الطهارة (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي المتطهرين ، ثم قرّر سبحانه الفرق بين المسجدين فقال (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) قد مضى بيانه ، والمراد : أن الله تعالى شبّه بنيانهم على نار جهنم بالبناء على جانب نهر هذا صفته ، فكما أن من بنى على جانب هذا النهر فإنه ينهار بناؤه في الماء ولا يثبت فكذلك بناء هؤلاء ينهار ويسقط في نار جهنم ، يعني أنه لا يستوي عمل المتقي وعمل المنافق ، فإن عمل المؤمن المتقي ثابت مستقيم مبني على أصل صحيح ثابت ، وعمل المنافق ليس بثابت وهو واه ساقط (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي يوقعه ذلك البناء في نار جهنم (وَاللهُ لا يَهْدِي