أَهْواءَهُمْ) إنما كرر سبحانه الأمر بالحكم بينهم لأنهما حكمان أمر بهما جميعا لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصن ، ثم احتكموا إليه في قتيل كان بينهم (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) معناه : احذرهم أن يضلوك بالكذب على التوراة لأنه ليس كذلك الحكم فيها ، فإني قد بينت لك حكمها وفي هذه الآية دلالة على وجوب مجانبة أهل البدع والضلال وذوي الأهواء ، وترك مخالطتهم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن اعرضوا عن حكمك بما أنزل الله (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) ذكر البعض تغليظا للعقاب ، والمراد انه يكفي ان يؤاخذوا ببعض ذنوبهم في إهلاكهم والتدمير عليهم وعذاب الآخرة (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) هذا تسلية للنبي (ص) عن امتناع القوم من الإقرار بنبوته ، والإسراع الى إجابته بأن أهل الإيمان قليل ، وأهل الفسق كثير ، فلا ينبغي ان يعظم عليك ذلك ثم أنكر عليهم فعلهم فقال : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) والمراد به اليهود لأنهم كانوا اذا وجب الحكم على ضعفائهم الزموهم إياه ، وإذا وجب على أقويائهم واشرافهم لم يؤاخذوهم به ، فقيل لهم : أفحكم الجاهلية ، أي عبدة الأوثان تطلبون وأنتم أهل الكتاب وقيل : المراد به كل من طلب غير حكم الله فانه يخرج منه إلى حكم الجاهلية (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) أي لا أحد حكمه أحسن من حكم الله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي لا أحد حكمه أحسن من حكم الله أي عند قوم عندهم العلم بصحته.
٥١ ـ ٥٣ ـ لمّا تقدّم ذكر اليهود والنصارى أمر سبحانه عقيب ذلك بقطع موالاتهم ، والتبرء منهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) أي لا تعتمدوا على الإستنصار بهم متوددين إليهم ، وخصّ اليهود والنصارى بالذكر لأن سائر الكفار بمنزلتهما في وجوب معاداتهم (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ابتداء كلام أخبر سبحانه أن بعض الكفار ولي بعض في العون والنصرة ، ويدهم واحدة على المسلمين وفي هذه دلالة على ان الكفر كله كالملة الواحدة في أحكام المواريث لعموم قوله (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي هو كافر مثلهم ، والمعنى : انه محكوم له حكمهم في وجوب لعنه والبراءة منه ، وانه من أهل النار (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى طريق الجنة لكفرهم واستحقاقهم العذاب الدائم ، بل يضلهم عنها إلى طريق النار (فَتَرَى) يا محمد (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق يعني عبد الله ابن أبي (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي في موالاة اليهود ومناصحتهم وقيل : في معاونتهم على المسلمين (يَقُولُونَ) أي قائلين (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي دولة تدور لأعداء المسلمين على المسلمين فنحتاج إلى نصرتهم (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) يريد بفتح الله تعالى لمحمد (ص) على جميع خلقه (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) فيه اعزاز للمؤمنين ، واذلال للمشركين ، وظهور الإسلام ، وهلاك اليهود والمنافقين (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) أي فيصبح أهل النفاق على ما كان منهم من نفاقهم وولايتهم لليهود ، ودس الأخبار إليهم نادمين على ما فعلوا والمعنى : إذا فتح الله على المؤمنين ندم المنافقون والكفار على تفويتهم أنفسهم ذلك ، وكذلك اذا ماتوا وتحققوا دخول النار (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله ظاهرا وباطنا تعجبا من نفاق المنافقين ، واجترائهم على الله بالأيمان الكاذبة (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ) يعني المنافقين حلفوا بالله (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي جهدوا جهد أيمانهم قال عطا : أي حلفوا بأغلظ الأيمان وأوكدها (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أي انهم مؤمنون ومعكم في معاونتكم على أعدائكم (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي ضاعت أعمالهم التي عملوها لأنهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به ، وبطل ما أظهروه من الإيمان