التوراة فيها ولذلك أفردت بالذكر (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) إنما قال هذا مع ان ما تقدّمه دلّ على هذه العدّة للبيان والتفصيل ، ولو لم يذكره لجاز أن يتوهم أنه أتمّ الثلاثين بعشر منها على معنى : كملنا الثلاثين بعشر حتى كملت ثلاثين (وَقالَ مُوسى) وقت خروجه إلى الميقات (لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي) أي كن خليفتي (فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) وأجر على طريقتك في الصلاح (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أي لا تسلك طريقة العاصين ، ولا تكن عونا للظالمين ، وإنما أراد بذلك إصلاح قومه وإن كان المخاطب به أخاه.
١٤٣ ـ ثم ذكر سبحانه حديث الميقات فقال : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) معناه : ولما انتهى موسى إلى المكان الذي وقّتناه له ، وأمرناه بالمصير إليه لنكلّمه ، وننزل عليه التوراة. (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) من غير سفير أو وحي كما كان يكلّم الأنبياء على السنة الملائكة ، وذكر في موضع آخر أنه اسمعه كلامه من الشجرة ، فجعل الشجرة محلا للكلام (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) إنه لم يسأل الرؤية لنفسه وإنما سألها لقومه حين قالوا له : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ، ولذلك قال (ع) لما أخذتهم الرجفة : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) فأضاف ذلك إلى السفهاء (قالَ لَنْ تَرانِي) هذا جواب من الله تعالى ومعناه : لا تراني أبدا ، لأن لن ينفي على وجه التأبيد كما قال : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) وقال : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) علّق رؤيته باستقرار الجبل الذي علمنا انه لم يستقرّ ، وهذه طريقة معروفة في استبعاد الشيء لأنهم يعلّقونه بما يعلم أنه لا يكون (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) أي ظهر أمر ربه لأهل الجبل والمعنى : أنه سبحانه أظهر من الآيات ما استدلّ به من كان عند الجبل على أن رؤيته غير جائزة (جَعَلَهُ دَكًّا) أي مستويا بالأرض وقيل : ساخ في الأرض حتى فنى (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي سقط مغشيا عليه ، وأما السبعون الذين كانوا معه فقد ماتوا كلهم لقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) (فَلَمَّا أَفاقَ) من صعقته (قالَ سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك من أن تأخذني بما فعل السفهاء من سؤال الرؤية (تُبْتُ إِلَيْكَ) قاله على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه كما يذكر التسبيح والتهليل ونحو ذلك من الألفاظ عند ظهور الأمور الجليلة (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنه لا يراك أحد من خلقك. وقيل معناه : أنا أول من آمن وصدّق بأنك لا ترى.
١٤٤ ـ ١٤٥ ـ ثم أخبر سبحانه عن عظيم نعمته على موسى بالإصطفاء وإجلال القدر ، وأمره إياه بالشكر بقوله : (قالَ) أي قال الله سبحانه : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) أي اخترتك واتخذتك صفوة ، وفضّلتك على الناس (بِرِسالاتِي) من غير كلام (وَبِكَلامِي) ولم يكلم أحدا بلا واسطة سوى موسى (ع) (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) أي تناول ما أعطيتك من التوراة ، وتمسّك بما أمرتك (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي من المعترفين بنعمتي ، القائمين بشكرها على حسب مرتبتها ، فكلما كانت النعمة أعظم وأجل وجب أن تقابل من الشكر بما يكون أتم وأكمل. (وَكَتَبْنا لَهُ) يعني لموسى (ع) (فِي الْأَلْواحِ) يريد ألواح التوراة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي أعطاه من كل شيء يحتاج إليه من أمر الدين (مَوْعِظَةً) هذا تفسير لقوله كل شيء (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدنيا ، من الأوامر والنواهي ، والحلال والحرام ، وذكر الجنة والنار ، وغير ذلك من العبر والأخبار (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي بجدّ واجتهاد (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي بما فيها من أحسن المحاسن وهي الفرائض والنوافل ، فإنها أحسن من المباحات (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) يعني سأريكم جهنم.