١٨٦ ـ لما ذكر سبحانه الصوم عقّبه بذكر الدعاء ومكانه منه وإجابته إياه فقال : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) الأقرب أن يكون السؤال عن صفته سبحانه لا عن فعله لقوله سبحانه : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي فقل إني قريب سريع الإجابة إلى دعاء الداعي وقوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) مفهوم المعنى وقوله (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) معناه : فليستجيبوا لي بالطاعة (وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي لعلهم يصيبون الحق ويهتدون إليه.
١٨٧ ـ (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) أي الجماع (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن كما قال : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) ، أي سكنا ، إنما جعل كل واحد منهما لباسا للآخر لانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) لما حرم عليهم الجماع والأكل بعد النوم ، وخالفوا في ذلك ذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي نسخت تلك التحريمة فقال : علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم بالمعصية ، أي لا تؤدون الأمانة بالإمتناع عن المباشرة (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي قبل توبتكم (وَعَفا عَنْكُمْ) غفر ذنوبكم (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) بالليل ، أي جامعوهن ، لفظه أمر ومعناه الإباحة (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) اطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال الذي بيّنه في كتابه وقوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) إباحة للأكل والشرب (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) أي ليظهر ويتميز لكم على التحقيق (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) أي النهار من الليل ، فأول النهار طلوع الفجر الثاني وإنما شبه ذلك بالخيط لأن القدر الذي يحرم الافطار من البياض يشبه الخيط فيزول به مثله من السواد (مِنَ الْفَجْرِ) من للتبيين ، لأنه بيّن الخيط الأبيض ، فكأنه قال : الخيط الأبيض الذي هو الفجر ، فابتداء الصوم من هذا الوقت ، ثم بيّن تعالى الإنتهاء فقال (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) أي إلى وقت دخول الليل ، وهو بعد غروب الشمس ، وعلامة دخوله على الإستظهار سقوط الحمرة من جانب المشرق وإقبال السواد منه ، وقوله (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) أراد الجماع وكل ما دونه من قبلة وغيرها (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أي معتكفون ، أي لا تباشروهن في حال إعتكافكم في المساجد ولا يصح الإعتكاف إلا بصوم ، ولا يكون إلا في ثلاثة أيام وقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) تلك إشارة إلى الأحكام المذكورة في الآية ، حدود الله : حرمات الله (فَلا تَقْرَبُوها) أي فلا تأتوها بالمخالفة (كَذلِكَ) أي مثل هذا البيان الذي ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) أي حججه وأدلته على ما أمرهم به ، ونهاهم عنه (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي لكي يتقوا معاصيه وتعدي حدوده فيما أمرهم به ونهاهم عنه واباحهم إياها.
١٨٨ ـ ثم بيّن سبحانه شريعة من شرائع الإسلام نسقا على ما تقدم من بيان الحلال والحرام فقال (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالغصب والظلم والوجوه التي لا تحل ، كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : أي ولا يقتل بعضكم بعضا وقيل معناه : لا تأكلوا أموالكم باللهو واللعب مثل ما يؤخذ في القمار والملاهي لأن كل ذلك من الباطل ، وروي عن أبي جعفر : أنه يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقتطع بها الأموال (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) وتلقوا بها إلى القضاة قيل إنه الودائع وما لا يقوم عليه بينة (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) أي لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالفعل الموجب للإثم ، بأن يحكم الحاكم بالظاهر وكان الأمر في الباطن بخلافه (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنّ ذلك الفريق من المال ليس بحق لكم وأنتم مبطلون ، وهذا أشد في الزجر.