السبب في ذلك توعد المشركين لهم بالرجوع إلى القتال ، فقعد المسلمون تحت الجحف متهيئين للحرب فأنزل الله الأمنة على المؤمنين فناموا دون المنافقين الذين أزعجهم الخوف بأن يرجع الكفار عليهم ، أو يغيروا على المدينة لسوء الظن ، فطير عنهم النوم (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي وجماعة قد شغلتهم أنفسهم ومعناه : كان همهم خلاص أنفسهم ، والعرب تطلق هذا اللفظ على كل خائف وجل شغله همّ نفسه عن غيره (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) أي يتوهمون أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه كظنهم في الجاهلية (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) فهذا تفسير لظنهم ، يعني يقول بعضهم لبعض : هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب؟ قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار (قُلْ) يا محمد (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ينصر من يشاء ، ويخذل من يشاء ، لا خاذل لمن نصره ، ولا ناصر لمن خذله ، وربما عجّل النصر وربما أخّره لضرب من الحكمة ، ولا يكون لوعده خلف ، والمراد بالأمر في الموضعين النصر (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) أي يخفون في أنفسهم الشك والنفاق وما لا يستطيعون إظهاره لك (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ) أي من الظفر كما وعدنا (شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي ما قتل أصحابنا ، شكا منهم فيما وعده الله تعالى نبيه من الإستعلاء على أهل الشرك ، وتكذيبا به (قُلْ) يا محمد لهم في جواب ذلك (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) ومنازلكم (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) معناه : لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون ، وتخلفتم عن القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) أي يختبر الله ما في صدوركم بأعمالكم ، لأنه قد علمه غيبا فيعلمه شهادة ، لأن المجازاة إنما تقع على ما علم مشاهدة لا على ما هو معلوم منهم غير معمول (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) هذا خطاب للمنافقين أي يأمركم بالخروج فلا تخرجون ، فيظهر للمسلمين معاداتكم لهم ، وتنكشف أسراركم فلا يعدكم المسلمون من جملتهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) معناه : إن الله لا يبتليكم ليعلم ما في صدوركم فإن الله عليم بذلك ، وإنما ابتلاكم ليظهر أسراركم فيقع الجزاء على ما ظهر.
١٥٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) هم الذين هربوا إلى المدينة في وقت الهزيمة (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وسيدهم رسول الله (ص) ، وجمع المشركين ورئيسهم أبو سفيان (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) أي طلب زلّتهم (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من معاصيهم السالفة فلحقهم شؤمها (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) أعاد تعالى ذكر العفو تأكيدا لطمع المذنبين في العفو (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) قد مرّ معناه.
١٥٦ ـ ١٥٨ ـ ثم نهى الله سبحانه المؤمنين عن الإقتداء بالمنافقين في أقوالهم وأفعالهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يريد عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) من أهل النفاق (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا فيها لتجارة أو طلب معاش فماتوا (أَوْ كانُوا غُزًّى) أي غزاة محاربين للعدو فقتلوا (لَوْ كانُوا) مقيمين (عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) معناه : قالوا هذا القول ليثبطوا المؤمنين عن الجهاد ، فلم يقبل المؤمنون ذلك وخرجوا ونالوا العزّ والغنيمة فصار حسرة في قلوبهم (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي هو الذي يحيي ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل ، لا مقدم لما أخر ، ولا مؤخّر لما قدم ، ولا راد لما قضى ، ولا محيص عما قدّر. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي عليم ، وهذا يتضمن