جميع خلقه فقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي ينزل بها الموت لا محالة فكأنها ذاقته (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) معناه : وإنما تعطون جزاء أعمالكم وافيا (يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن خيرا فخيرا وثوابا ، وإن شرا فشرا وعقابا ، فإن الدنيا ليست بدار جزاء وإنما هي دار عمل ، والآخرة دار جزاء وليست بدار عمل (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) أي بوعد عن نار جهنم ونجي عنها ، وأدخل الجنة (فَقَدْ فازَ) أي نال المنية ، وظفر بالبغية ، ونجا من الهلكة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) معناه : ما لذات الدنيا وشهواتها وزينتها الا متعة متعكموها الغرور والخداع المضمحل الذي لا حقيقة له عند الإختبار ، لأنكم تلتذون بها ثم انها تعود عليكم بالرزايا والفجائع ، ولا تركنوا إليها ، ولا تغتروا بها فإنها هي غرور ، وصاحبها مغرور وفي الآية دلالة على ان أقل نعيم من الآخرة خير من نعيم الدنيا بأسره ، ولذلك قال (ع): موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
١٨٦ ـ ثمّ بيّن تعالى أنّ الدنيا دار محنة وابتلاء ، وأنها إنما زويت عن المؤمنين ليصبروا فيؤجروا فقال : (لَتُبْلَوُنَ) أي لتوقع عليكم المحن ، وتلحقكم الشدائد (فِي أَمْوالِكُمْ) بذهابها ونقصانها (وَ) في (أَنْفُسِكُمْ) أيها المؤمنون بالقتل والمصائب مثل ما نالكم يوم أحد (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني اليهود والنصارى (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعني كفار مكة وغيرهم (أَذىً كَثِيراً) يعني ما سمعوه من تكذيب النبي (ص) ، ومن الكلام الذي يغمه (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) يعني ان صبرتم على ذلكم ، وتمسكتم بالطاعة ولم تجزعوا عنده جزعا يبلغ الإثم (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي مما بان رشده وصوابه ، ووجب على العاقل العزم عليه.
١٨٧ ـ ثم حكى سبحانه عنهم نقض الميثاق والعهود بعد حكايته عنهم التكذيب بالرسل فقال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أراد اليهود والنصارى (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) أي لتظهرنه للناس والهاء عائدة إلى محمد (ص) لأن في كتابهم ان محمدا رسول الله (ص) ، وان الدين هو الإسلام (وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي ولا تخفونه عند الحاجة (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ومعناه : ضيّعوه وتركوه وراء ظهورهم فلم يعملوا به وإن كانوا مقرّين به (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي استبدلوا بعهد الله عليه وميثاقه عوضا يسيرا من حطام الدنيا ، يعني ما حصلوه لأنفسهم من المأكلة والرشا والهدايا التي أخذوها (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) أي بئس الشيء ذلك إذ يستحقون به العذاب الأليم وإن كان نفعا عاجلا ، ودلّت الآية على وجوب إظهار الحق ، وتحريم كتمانه ، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات وغير ذلك من الأمور التي يختص بها العلماء.
١٨٨ ـ ثم بيّن سبحانه خصلة أخرى ذميمة من خصال اليهود فقال : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي الذين يفرحون بالنفاق (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) أي بالإيمان (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) أي لا تظننهم بمنجاة وبعد من النار (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم.
١٨٩ ـ لما ذكر سبحانه في الآية المتقدمة من فرح بمعصية ركبها ، وأحبّ أن يحمد بما لم يفعله ، وأخبر أنه لا نجاة لهم من عذابه قال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو مالك ما في السماوات والأرض بمعنى : أنه يملك تدبيرهما وتصرفهما على ما يشاء من جميع الوجوه ، ليس لغيره الإعتراض عليه ، فكيف يطمع والحال هذه في الخلاص منه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيه تنبيه على أنه قادر على إهلاك من أراد إهلاكه ، وعلى الإنشاء والإفناء كما