قال أبو حيّان : وقد تقدم الرّدّ على هذا القول في البقرة ، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ، ولا على التنجيم ، وقد جاء في القرآن أنزل ، ونزّل قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) [النحل : ٤٤] (ونزلنا عليك الكتاب) [النحل : ٤٤] ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان من نزل مشدّدا بالتخفيف إلّا ما استثني ، ولو كان أحدهما يدلّ على التنجيم والآخر يدل على النزول دفعة واحدة لتناقضت الأخبار ، وهو محال ، وقد سبق الزمخشريّ في هذا القول بعينه الواحديّ].
قوله : (بِالْحَقِ) قال أبو مسلم : يحتمل وجوها.
أحدها : أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السابقة.
الثاني : أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلّف على اتباع الحقّ في العلم والعمل.
ثالثها : أنه حقّ ؛ بمعنى : أنه قول فصل وليس بالهزل.
رابعها : قال الأصمّ : أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية ، وشكر النعمة وما يجب لبعضهم على بعض من العدل ، والإنصاف.
خامسها : أنه أنزله بالحق لا بالمعاني المتناقضة الفاسدة ، كما قال : (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) [الكهف : ١] ، وقال : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].
وقوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) معناه : مصدقا لكتب الأنبياء ، ولما أخبروا به عن الله ، وهذا دليل على صحة القرآن من وجهين :
أحدهما : أنه موافق لسائر الكتب ، ولو كان من عند غير الله لم يوافقها ، وهو ـ عليهالسلام ـ لم يختلط بالعلماء ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا قرأ على أحد شيئا [والمفتري] ـ إذا كان هكذا ـ يمتنع أن يسلم من الكذب والتحريف ، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص من الله تعالى.
الثاني : قال أبو مسلم : إن الله تعالى لم يبعث نبيّا قط إلا بالدعاء إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الإله عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. والقرآن مصدق لكل الكتب في ذلك.
فإن قيل : كيف سمّي ما مضى بأنه بين يديه؟
فالجواب : أن تلك الأخبار ـ لغاية ظهورها ، وكونها موجودة ـ سماها بهذا الاسم.
فإن قيل : كيف يكون مصدقا لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام؟
فالجواب : إذا كانت الكتب مشهورة بالرسل ، وأحكامها ثابتة إلى حين نزول القرآن