فإنها تصير منسوخة بنزول القرآن ، كان القرآن مصدقا لها ، وأيضا فدلائل المباحث الإلهية ، وأصول العقائد لا تختلف ، فلهذا كان مصدّقا لها.
قوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) اختلف الناس في هذين اللفظين ، هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف ، أم لا يدخلانهما ؛ [لكونهما أعجميّين؟](١).
فذهب الزمخشريّ وغيره إلى الثاني ، قالوا : لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين ، قال الزمخشريّ : «وتكلف اشتقاقهما من الوري والنّجل ، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما [عربيين](٢)».
قال أبو حيّان (٣) : «وكلامه صحيح ، إلا أن فيه استدراكا ، وهو قوله «تفعلة» ولم يذكر مذهب البصريين وهو أن وزنها فوعلة ، ولم ينبه على «تفعلة» هل هي بكسر العين أو فتحها»؟
قال شهاب الدين (٤) : «لم يحتج إلى التنبيه على الشيئين لشهرتهما ، وإنما ذكر المستغرب» ، ويؤيد ما قاله الزمخشريّ من كونها أعجمية ما نقله الواحديّ ، وهو أن التوراة ، والإنجيل ، والزبور سريانية فعرّبوها (٥) ، ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا :
فقال بعضهم : التوراة مشتقة من قولهم : وري الزّند إذا قدح ، فظهر منه نار ، يقال : وري الزند وأوريته أنا ، قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [الواقعة : ٧١]؟ ، فثلاثيّه قاصر ، ورباعيه متعدّ ، وقال تعالى : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) [العاديات : ٢] ، ويقال أيضا : وريت بك زنادي (٦) ، فاستعمل الثلاثي متعديا ، إلا أن المازني زعم أنه لا يتجاوز به هذا اللفظ ، يعني فلا يقاس عليه ، فيقال : وريت النار مثلا ، إذا تقرر ذلك ، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور ، يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور ، سمّي هذا الكتاب بالتوراة ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) [الأنبياء : ٤٨] وهذا قول الفراء و [مذهب](٧) جمهور الناس.
وقال آخرون : بل هي مشتقة من ورّيت في كلامي ، من التورية ، وهي التعريض ، وفي الحديث : «كان إذا أراد سفرا ورّى بغيره» (٨) ، وسميت التوراة بذلك : لأن أكثرها
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في أ : عبريين.
(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٨٧.
(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٩.
(٥) في أ : فعبروها.
(٦) هذا مثل يضرب إذا رأى الإنسان ما أحب. ينظر مجمع الأمثال ٣ / ٤٣٢ (٤٣٧٦).
(٧) سقط في ب.
(٨) أخرجه البخاري ٧ / ٧١٧ كتاب المغازي ، باب حديث كعب بن مالك (٤١٨) ومسلم ٤ / ٢١٢٨ كتاب التوبة ، باب حديث توبة كعب بن مالك (٥٤ ـ ٢٧٦٩) ضمن حديث طويل لكعب بن مالك بلفظ «... ولم يكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريد غزرة إلا ورّى بغيرها ...».