وقرأ العامة : «حرّم» بالبناء للمفعول ، والفاعل هو الله. وقرأ عكرمة «حرّم» مبنيّا للفاعل (١) وهو الله تعالى ، أو الموصول في قوله : «لما بين يديه» ؛ لأنه كتاب منزّل ، أو موسى ؛ لأنه هو صاحب التوراة ، فأضمر بالدلالة عليه بذكر كتابه.
وقرأ إبراهيم النّخعيّ : «حرم» (٢) ـ بوزن شرف وظرف ـ ونسب الفعل إليه مجازا للعلم بأن المحرّم هو الله.
فإن قيل : هذه الآية مناقضة للآية التي قبلها ؛ لأنها صريحة في أنه جاء ليحلّ لهم بعض الذي كان محرما عليهم في التوراة ، وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التوراة ، وهذا يناقض قوله : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ).
فالجواب : أنه لا مناقضة بين الكلام ؛ لأن التصديق بالتوراة ، لا معنى له إلّا اعتقاد أن كلّ ما فيه فهو حق وصواب ، فإذا لم يكن التأبيد مذكورا في التوراة لم يكن حكم عيسى بتحليل ما كان محرّما فيه مناقضا لكونه مصدّقا بالتوراة ، كما يرد النسخ في الشريعة الواحدة.
فصل
قال وهب : كان عيسى على شريعة موسى ، يقرّر السبت ، ويستقبل بيت المقدس (٣) ، ثم فسّر قوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) بأمرين :
أحدهما : أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ، ونسبوها إلى موسى ، فجاء عيسى ورفعها ، وأبطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى ـ عليهماالسلام ـ.
الثاني : أن الله ـ تعالى ـ كان قد حرّم عليهم بعض الأشياء ؛ عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات ، كما قال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] ثم بقي ذلك التحريم مستمرا على اليهود ، فجاء عيسى ، ورفع عنهم تلك التشديدات.
وقال آخرون : إن عيسى رفع كثيرا من أحكام التوراة ، ولم يقدح ذلك في كونه مصدّقا بالتوراة ؛ لما بينا أن الناسخ والمنسوخ كلاهما حقّ وصدق ، فرفع السّبت ، وأقام الأحد مقامه.
قوله : (وَجِئْتُكُمْ) هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيدا للأولى ؛ لتقدّم معناها ولفظها قبل ذلك.
__________________
(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٤١ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٩٠ ، والدر المصون ٢ / ١١٠.
(٢) انظر : السابق.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٣٨) عن وهب.