القيامة ، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الأنعام : ٢٥] ، والقدريّ يقول : بل هذا مذهب الكفار ؛ بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨] ، وأيضا مثبت الرؤية يتمسك بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] ، والنافي يتمسك بقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] ، ومثبت الجهة يتمسك بقوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢] وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] والنافي يتمسك بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة ، وإنما يرجع في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية ، ووجوه ضعيفة ، فكيف يليق بالحكيم (١) أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام القيامة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهرا جليا خاليا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض؟ فذكر العلماء في فوائد المتشابهات وجوها :
الأول : أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.
الثاني : أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر إلى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد ، ويصل (٢) إلى ضياء الاستدلال ، ولو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية ، وكان يبقى ـ حينئذ ـ في الجهل والتقليد.
الثالث : أن القرآن لما كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر إلى تعلم طرق التأويلات ، وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علوم اللغة ، والنحو ، وأصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان الإنسان يحتاج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، فكان في إيراد هذه المتشابهات هذه الفوائد.
الرابع : أن القرآن يشتمل على دعوة الخواص ، والعوامّ بالكلية ، وطباع العوام تنبو ـ في أكثر الأمر ـ عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام ـ في أول الأمر ـ إثبات موجود ليس بجسم ولا متحرك (٣) ولا يشار إليه ظنّ بأن هذا عدم ونفي ، فوقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه ، وتخيلوه ، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح فالمخاطبة في أول الأمر تكون من أبواب المتشابهات ، والثاني وهو الذي انكشف لهم في آخر الأمر هو المحكم.
__________________
(١) في أ : بالحكم.
(٢) في أ : ويحصل.
(٣) في أ : بمتحرك.