ومعنى الآية ـ على هذا التقدير ـ لا أدعوكم إلى أن تكونوا عبادا لي ، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ، ومواظبتكم على طاعته.
قال القفال : يحتمل أن يكون الوالي ، سمّي ربانيّا ؛ لأنه يطاع كالربّ ، فنسب إليه.
قال أبو عبيدة : أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية ، إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وسواء كانت عبرانية ، أو سريانية ، أو عربية فهي تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم ، ثم اشتغل بتعليم الخير.
قوله : (بِما كُنْتُمْ) الباء سببية ، أي : كونوا علماء بسبب كونكم ، وفي متعلق هذه الباء ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها متعلقة ب «كونوا» ذكره أبو البقاء ، والخلاف مشهور.
الثاني : أن تتعلق ب «ربّانيّين» لأن فيه معنى الفعل.
الثالث : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة ل «ربّانيّين» ذكره أبو البقاء ، وليس بواضح المعنى ، و «ما» مصدرية ، فتكون مع الفعل بتأويل المصدر ، أي : بسبب كونكم عالمين ، نظيره قوله : (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ) [الجاثية : ٣٤]. وظاهر كلام أبي حيان أنه يجوز أن تكون غير ذلك ؛ فإنه قال : و «ما» الظاهر أنها مصدرية ، فهذا يوم تجويز غير ذلك ـ وفي جوازه بعد ـ وهو أن تكون موصولة ، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر ، أي بسبب الذي تعلمون به الكتاب ، وقد نقص شرط ، وهو اتحاد المتعلّق ، فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية. و «كنتم» معناه «أنتم» كقوله : (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم : ٢٩] أي من هو في المهد.
قوله : (تُعَلِّمُونَ) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (١) «تعلمون» مفتوح حرف المضارعة ، ساكن العين مفتوح اللام من علم يعلم ، أي : تعرفون ، فيتعدى لواحد ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة ، وفتح العين وتشديد اللام مكسورة ، فيتعدى لاثنين ، أولهما محذوف ، تقديره : تعلّمون الناس والطالبين الكتاب. ويجوز أن لا يراد مفعول ، أي : كنتم من أهل التعليم ، وهو نظير : أطعم الخبز ، المقصود الأهم إطعام الخبز من غير نظر إلى من يطعمه ، فالتضعيف فيه للتعدية.
وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع ، بأنها أبلغ ؛ وذلك أن كل معلّم عالم ، وليس كلّ عالم معلما ، فالوصف بالتعليم أبلغ ، وبأن قبله ذكر الربانيين ، والرباني يقتضي أن يعلم ، ويعلّم غيره ، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه.
ورجح بعضهم الأولى بأنه لم يذكر إلا مفعول واحد ، والأصل عدم الحذف ـ
__________________
(١) ينظر : السبعة ٢١٣ ، والكشف ١ / ٣٥١ ، والحجة ٢ / ٥٨ ، ٥٩ ، وحجة القراءات ١٦٧ ، والعنوان ٨٠ ، وشرح شعلة ٣١٨ ، وإعراب القراءات ١١٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٠ ، وإتحاف ١ / ٤٨٣.