الذي يفيد الظن ؛ لأن الدليل الظني لا يكتفى به في موضع اليقين ، وإن كانت ظنيّة أدى
__________________
ـ اختصاص الهدى بما أوحاه الله من كتاب أو سنة فيكون ما سواهما من قياس وغيره ضلالا ، وقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) فإنه يدل على توقف الإيمان على تحكيم الرسول صلىاللهعليهوسلم باتباع حكمه الذي نص عليه في الكتاب أو السنة فيكون اتباع ما عداه من قياس وغيره مخالفا للإيمان. وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) فإنه دل على أنه لا يتبع إلا ما أوحاه الله إليه من الكتاب أو السنة وهو قدوة الأمة فيلزم الأمة اتباعهما ويمتنع عليها اتباع غيرهما من قياس أو غيره.
«والجواب عن الاستدلال بهذه الآيات كلها» أن حجية القياس الصحيح مدلول عليها بالكتاب والسنة ، فكل ما دل على وجوب اتباع الكتاب والسنة والاقتصار عليهما يدل على وجوب العمل بالقياس الصحيح ، بخلاف الرأي المحض والقياس الفاسد.
ثالثا : منها قول الله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فإن دل على أن الظن لا يفيد شيئا من الحق ، والقياس ظن لابتنائه على علية العلة في الأصل ووجودها في الفرع وهما ظنيان لاحتمال أن تكون خصوصية الأصل جزءا من العلة أو شرطا لعليتها أو تكون خصوصية الفرع مانعة من العلية ، ولا سبيل إلى القطع مع قيام هذه الاحتمالات ، فالقياس إذا لا يفيد شيئا من الحق فيمتنع العمل به شرعا.
وكذا قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فإنه دل على تحريم كثير من الظن وهو غير معلوم فلا يتم الامتثال إلا بالامتناع عن جميع الظن ومنه القياس. وقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فإنه دل على تحريم اتباع ما لم يعلم ومنه الحكم القياس فإنه مظنون غير معلوم. وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فإنه دل على تحريم القول على الله بما لا يعلم. ولا شك أن الحكم بالقياس يقتضي الإخبار بأن مدلوله حكم الله تعالى وهو لا يعلم ، وإنما يظن ظنا ، فهو قول على الله بما لا يعلم فيكون حراما.
ويناقش الاستدلال بهذه الآيات كلها بأنا لا نسلم دلالتها على منع القياس الصحيح.
«أما الآية الأولى» فإن المراد بالظن فيها الظن الذي لا مستند له ، وإنما هو رجم بالغيب وتقليد للآباء وتقوّل بغير دليل ، وأما الظن المستند إلى النظر والاستدلال فليس داخلا في مضمون الآية ، ولا يخفى أن القياس من باب الظن المستند إلى النظر في الأدلة الشرعية فلا يكون داخلا في الآية.
ولئن سلمنا أن المراد به الظن مطلقا لا نسلم أنه لا يغني من الحق شيئا في كل مقام ، بل المراد الظن في مقام يطلب فيه اليقين كالاعتقادات المتعلقة بذات الله تعالى وذات رسله وإلّا لانتقض بدلالات الكتاب والسنة على الأحكام الشرعية فإنها تغني من الحق مع أنها ظنية.
«وأمّا الآية الثانية» فإن المراد من الظن فيها ظن السوء بالمسلم السالم عرضه ودينه ظاهرا بقرينة قول الله تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فإن الأمور الثلاثة مرتبة في الواقع ، لأن من ظن بأخيه شرا دعاه ظنه إلى التجسس عليه ، فإذا ظهر له بالتجسس شيء دعاه ذلك إلى غيبته فنهى الله عزوجل عن هذا الظن وما يترتب عليه وأين منه القياس؟ ومما يرشد إلى هذا أنه لم يقل اجتنبوا الظن إن الظن إثم مع أنه أخصر ، وما ذلك إلّا لأن من الظن ما هو إثم ومنه ما هو هو غير إثم كالقياس. كظن السوء بمن شهد عليه العدول بما يفسقه وبمن أقر على نفسه بذلك.
«وأما الآيتان الثالثة والرابعة» فقوله عزوجل في إحداهما (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وفي الأخرى (ما لا تَعْلَمُونَ) لا يجوز أن يراد به ما يشمل الحكم القياسي ونحوه من المظنونات المعتد بها شرعا كخبر الواحد وظاهر الكتاب وخبر الشهود لئلا تتعارض الآيتان مع الأدلة القائمة على جواز بل وجوب العمل ـ