الرجوع إليها إلى الاختلاف والنزاع وقد نهى الله عنه بقوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران :
__________________
ـ بها ، والتعارض خلاف الأصل.
«فإن قيل» كيف يتأتى عدم إرادة هذه المظنونات مع أنها من مشمولات ما لا يعلم؟
«قلنا» يتأتى ذلك بثلاث طرق :
١ ـ أن المراد بالعلم في الآيتين الإدراك القوي جازما كان أو راجحا فيشمل الظن ، واستعماله في هذا المعنى الشامل للظن كثير جدا بشهادة الاستقراء ، فيكون المحرم المنهي عنه هو اتباع ما لا يدرك إدراكا جازما ولا راجحا وهو المشكوك فيه والمتوهم ، والمقطوع بخلافه فلا يدخل فيه الحكم القياسي ونحوه.
٢ ـ أن يبقى العلم على معناه المشهور وهو الإدراك الجازم المطابق للواقع عن موجب فيكون قوله تعالى : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقوله (ما لا تَعْلَمُونَ) دالين على كل ما لا يقطع به من مظنون وغيره. لكن هذا المدلول ليس مرادا عمومه بل هو مخصوص بغير ما قام الدليل على جواز اتباعه من المظنونات كالحكم القياسي ونحوه. فهذه المظنونات خارجة عن الآيتين من حيث الإرادة وإن كانت داخلة فيها من حيث الدلالة.
٣ ـ أن يبقى العلم على معناه المشهور ويبقى قول الله تعالى : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقوله (ما لا تَعْلَمُونَ) على ظاهرهما من العموم ويقال إن الحكم القياسي ونحوه والمظنونات التي قامت الأدلة على وجوب العمل بها قد صارت بهذه الأدلة معلومات متيقنات غير مظنونات وذلك أن المجتهد أو القاضي إذا حصل له ظن مستند إلى دليل معتد به شرعا علم أن الله عزوجل أوجب عليه العمل بهذا الظن للإجماع القاطع على ذلك.
ثم إما أن يكون من المصوبة أو من المخطئة.
فإن كان من المصوبة فالعلم بوجوب العمل بالظن يوجب العلم بأن هذا الحكم هو حكم الله تعالى في حقه وليس لله حكم في حقه سواء ، فالحكم الذي ظهر أولا عقب الدليل المنتج له يقطع به عقب العام بوجوب العمل به.
وإن كان من المخطئة فالعلم بوجوب العمل بالظن وإن لم يوجب العلم بأن هذا الحكم هو حكم الله في الواقع لكنه يوجب العلم بأنه حكم الله الظاهري الذي يخرجه من العهدة ، فالحكم القياسي ونحوه إذا معلوم لا مظنون فلا يدخل في قوله تعالى : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ولا في قوله (ما لا تَعْلَمُونَ) فلا يكون اتباعه محرما «وقد يقال» إن الظن والعلم لا يمكن أن يكونا في لحظة واحدة فلا بد أن يكون العلم متأخرا عن الظن فالحكم في حالة الظن السابقة على حالة العلم يكون داخلا في الآيتين وأيلولته بعد ذلك إلى العلم لا تمنع دخوله فيهما في هذه الحالة الأولى فيكون اتباعه محظورا على فرض قصر العلم على الجزم وعدم تخصيص ما لا يعلم. فلا بد في الجواب من تعميم العلم بحيث يشمل الظن. أو تخصيص ما لا يعلم بحيث تخرج عنه المظنونات التي قامت الأدلة على اتباعها أعني أنه لا بد من إحدى الطريقتين الأوليين فهذا الطريق الثالث على ما فيه من الطول لم يستغن عنهما وهما مستغنيان عنه كما ترى.
رابعا : قد رأيت لاختلاف أوجه دلالة هذه الآيات وتنوع المناقشات حول الاستدلال بها أن أفرد كل آية منها بالبحث وهاكها :
أ ـ قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).
«وجه الاستدلال بها» أن التقديم بين يدي الله ورسوله هو الإقدام على شيء لم يأذنا فيه ، وإذنهما إنما يكون بالنص على الشيء في الكتاب أو السنة ولا شك أن الحكم بالقياس إقدام على شيء لا نص فيه ـ