قوله : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) هذا إخبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لانهزموا ، وخذلوا ، (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي : إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ، ولا قوة ـ ألبتة ـ ، ونظيره قوله تعالى : (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) [الحشر : ١٢] ، وقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران : ١٢] ، وقوله : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٤ ـ ٤٥] ، وكل ذلك وعد بالفتح ، والنصر ، والظفر ، وهذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة.
منها : أن المؤمنين آمنون من ضررهم.
ومنها : أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا.
ومنها : أنه لا يحصل لهم شوكة بعد الانهزام.
وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها ، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا ، وما أقدموا على محاربة ، وطلب رئاسة إلا خذلوا ، وكل ذلك إخبار عن الغيب ، فيكون معجزا.
فإن قيل : هب أن اليهود كذلك ، لكن النصارى ليسوا كذلك ، وهذا يقدح في صحة هذه الآيات.
فالجواب : أنها مخصوصة باليهود ، لما روي في سبب النزول.
وقوله : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) كلام مستأنف.
فإن قيل : لم كان قوله : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) مستأنفا ، ولم يجزم ، عطفا على جواب الشرط؟
فالجواب : أنه لو جزم لتغيّر المعنى ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أخبرهم بعدم نصرتهم ـ مطلقا ـ فلو عطفناه على جواب الشرط لزم تقييده بمقاتلتهم لنا ، بينما هم غير منصورين مطلقا ـ قاتلوا ، أو لم يقاتلوا. وزعم بعضهم أن المعطوف على جواب الشرط ب «ثم» لا يجوز جزمه ألبتة ، قال : لأن المعطوف على الجواب جواب ، وجواب الشرط يقع بعده وعقيبه ، و «ثم» يقتضي التراخي ، فكيف يتصور وقوعه عقيب الشرط؟ فلذلك لم يجزم مع «ثم».
وهذا فاسد جدّا ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨] ، ف «لا يكونوا» مجزوم نسقا على «يستبدل» الواقع جوابا للشرط ، والعاطف «ثمّ».
و «الأدبار» مفعول ثان ل «يولّوكم» ؛ لأنه تعدّى بالتضعيف إلى مفعول آخر.
فإن قيل : ما الذي عطف عليه قوله : (لا يُنْصَرُونَ؟)
فالجواب : هو جملة الشرط والجزاء ، كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. وإنما ذكر لفظ «ثمّ» ، لإفادة معنى التراخي في