يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه ، وأراد أن يرميه ، فقال : أنا رسول الله ، ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفرح رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين رأى من يمتنع به ، فأقبلوا على المشركين ، يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه ، حتى وقفوا بباب الشّعب ، فلما نظر المسلمون إليهم همّهم ذلك ، وظنوا أنهم يميلون عليهم ، فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، ثم بدأ أصحابه ، فرموهم بالحجارة حتّى أنزلوهم.
وإذا عرفت هذا فكلّ واحد من المفسّرين فسّر هذين الغمين بغمين من هذه الغموم وقال القفّال : وعندنا أن الله ـ تعالى ـ ما أراد بقوله : (غَمًّا بِغَمٍ) اثنين ، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها ، أي : أن الله عاقبكم بغموم كثيرة ، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ، ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم ، بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ، ومثل إقدامكم على المعصية ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ؛ ليصير ذلك زاجرا لكم عن الإقدام على المعصية ، والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى.
والغمّ : التغطية ، يقال : يوم غمّ ، وليلة غمّة ـ إذا كانا مظلمين ـ ومنه : غمّ الهلال ـ إذا لم ير ، وغمّ الأمر ، يغمى ـ إذا لم يتبيّن.
قوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) هذه لام «كي» وهي لام جرّ ، والنصب ـ هنا ـ ب «كي» لئلّا يلزم دخول حرف جرّ على مثله ، وفي متعلّق هذه اللام قولان :
أحدهما : أنه (فَأَثابَكُمْ) وفي «لا» على هذا وجهان :
الأول : أنها زائدة ؛ لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن ، والمعنى : أنه غمهم ليحزنهم ؛ عقوبة لهم على تركهم مواقفهم ، قاله أبو البقاء.
الثاني : أنها ليست زائدة ، فقال الزمخشريّ : معنى (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) لتتمرّنوا على تجرّع الغموم ، وتتضرروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضارّ.
وقال ابن عطية : «المعنى : لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم ورّطتم أنفسكم ، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إذا ظن البراءة من نفسه».
ثانيهما : أن اللام تتعلق ب «عفا» لأن عفوه يذهب كلّ حزن ، وفيه بعد ؛ لطول الفصل.
ثم قال : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم ، قادر على مجازاتها ، وهذا زجر عظيم للبعد عن الإقدام على المعصية.