كالأول ، وأمّا (مِنَ الْحَقِّ) فعلى جعله أنها للبيان تتعلّق بمحذوف ، أي : أعني من كذا ، وعلى جعله أنّها للتبعيض تتعلّق ب «عرفوا» ، وهو معنى قوله : «عرفوا بعض الحق».
وقال أبو البقاء (١) في (مِنَ الْحَقِّ) : إنه حال من العائد المحذوف على الموصول ، أي : ممّا عرفوه كائنا من الحق ، ويجوز أن تكون «من» في قوله تعالى : (مِمَّا عَرَفُوا) تعليلية ، أي : إنّ فيض دمعهم بسبب عرفانهم الحقّ ؛ ويؤيّده قول الزمخشري (٢) : «وكان من أجله وبسببه» ، فقد تحصل في «من» الأولى أربعة أوجه ، وفي الثالثة ضعف ، أو منع ؛ كما تقدّم ، وفي «من» الثانية أربعة أيضا : وجهان بالنسبة إلى معناها : هل هي ابتدائية أو تعليلية؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلّق به : هل هو «تفيض» ، أو محذوف ؛ على أنها حال من الدمع ، وفي الثالثة خمسة : اثنان بالنسبة إلى معناها : هل هي بيانية أو تبعيضية؟ وثلاثة بالنسبة إلى متعلّقها : هل هو محذوف ، وهو «أعني» ، أو نفس «عرفوا» ، أو هو حال ، فتتعلّق بمحذوف أيضا ؛ كما ذكره أبو البقاء.
وقوله تعالى : (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) ، يدلّ على أنّ الإخلاص والمعرفة بالقلب مع القول تكون إيمانا.
قوله تعالى : (يَقُولُونَ) الآية. فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مستأنف ؛ فلا محلّ له ، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة الحسنة.
الثاني : أنها حال من الضمير المجرور في «أعينهم» ، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه ؛ لأنّ المضاف جزؤه ؛ فهو كقوله تعالى : (ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [الحجر : ٤٧].
الثالث : أنه حال من فاعل «عرفوا» ، والعامل فيها «عرفوا» ، قال أبو حيان (٣) لمّا حكى كونه حالا : «كذا قاله ابن عطية (٤) وأبو البقاء ، ولم يبيّنا ذا الحال ، ولا العامل فيها» ، قال شهاب الدين : أمّا أبو البقاء ، فقد بيّن ذا الحال ، فقال (٥) : «يقولون» حال من ضمير الفاعل في «عرفوا» ، فقد صرّح به ، ومتى عرف ذو الحال ، عرف العامل فيها ؛ لأنّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها ، فالظاهر : أنه اطّلع على نسخة مغلوطة من إعراب أبي البقاء سقط منها ما ذكرته لك ، ثم إنّ أبا حيان ردّ كونها حالا من الضمير في «أعينهم» ؛ بما معناه : أن الحال لا تجيء من المضاف إليه ، وإن كان المضاف جزأه ، وجعله خطأ ، وأحال بيانه على بعض مصنّفاته ، وردّ كونها حالا أيضا من فاعل «عرفوا» ؛ بأنه يلزم تقييد معرفتهم الحقّ بهذه الحال ، وهم قد عرفوا الحقّ في هذه الحال وفي
__________________
(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٤.
(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٠.
(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨.
(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٢٧.
(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٤.