قال الشيخ محمد عبده ، معرضاً بأولئك المنكرين للوحي :
« إنّ انكشاف ما غاب من مصالح البشر عن عامتهم ، لمن يختصه الله بذلك ، لا أراه مما يصعب إدراكه ، إلّا على من يريد أن لا يدرك ، ويحبّ أن يرغم نفسه الفهّامة على أن لا تفهم . نعم ، يوجد في كلّ أُمة وفي كل زمان أُناس يقذف بهم الطيش ، والنقص في العِلْم ، إلى ما وراء سواحل اليقين ، فيسقطون في غمرات من الشك في كل ما لم يقع تحت حواسهم الخَمْس ، بل يدركهم الريب فيما هو من متناولها ، فكأنّهم بسقطتهم هذه انحطوا إلى ما هو أدنى من مراتب أنواع أخرى من الحيوان ، فينسون النقل وشؤونه ، ويجدون في ذلك لذّة الإطلاق عن قيود الأوامر والنواهي . فإذا عرض عليهم شيء من الكلام في النبوات والأديان ، وهم من أنفسهم هامّ بالإصغاء ، دافعوه بما أُوتوا من الإختيار في النظر ، وانصرفوا عنه ، وجعلوا أصابعهم في آذانهم ، حذر أن يخالط الدليل أذهانهم ، فيلزمهم العقيدة ، وتتبعها الشريعة ، فيحرموا لذّة ما ذاقوا ، أو ما يحبون أن يتذوقوا ، وهو مرض في الأنفس والقلوب يستشفى منه بالعلم إنشاء الله » .
ثم أضاف : « قلت : أي استحالة في الوحي ، وأن ينكشف لفلان ما لا ينكشف لغيره ، من غير فكر ولا ترتيب مقدمات ، مع العلم أنّ ذلك من قبل واهب الفكر ومانح النظر ، حتى حَفَّت العنايةُ من ميَّزَتْهُ هذه النعمة .
فما شهدت به البديهة ، أن درجات العقول متفاوتة ، يعلو بعضها بعضاً ، وأنّ الأدنى منها لا يدرك ما عليه الأعلى إلّا على وجه من الإجمال ، وأنّ ذلك ليس لتفاوت المراتب في التعليم ، بل لا بدّ معه من التفاوت في الفطر التي لا تدخل فيها ، لاختيار الإنسان وكسبه .
فمِنْ ضَعْف العقول ، والنكول عن
النتيجة اللازمة لمقدماتها عند الوصول إليها ، أن لا يسلم بأنّ من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأُفق الأعلى وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا ، وتشهد من أمر الله شهود العيان ، ما لم يصل غيرها
إلى تعقّله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان ، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحاً