سبحانه ، من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر ، أو التماس دليل ، أو إقامة حجة ، ولو افتقر إلى شيء من ذلك ، لكان اكتساباً عن طريق القوة النظرية ، لا تلقياً من الغيب ، من غير توسيط القوة الفكرية .
قال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ ) (١) .
فهذه الآية تشير إلى أنّ الذي يتلقى الوحي من الروح الأمين هو نفس النبي الشريفة ( قلبك ) ، من غير مشاركة الحواس الظاهرة ، التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية . فالنبي يرى ويسمع حينما يُوحى إليه ، من غير أن يستعمل حاسَّتَيِ البصر والسمع .
قال سبحانه : ( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ . قُلْ : مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ، إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل : لَّوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (٢) .
فالأنبياء كلّهم يُسندون تعاليمهم وتنبؤاتهم إلى هذا النوع من الإدراك ، الذي لا مصدر له إلّا عالم الغيب ، وخالق الكون ، ومثل هذا لا يمكن أن يُدْرَكَ كُنْهُه ، بل يجب الإيمان به كما هو شأن كلِّ أمرٍ غيبي لا يحيط الإنسان المادي بحقيقته ، وإنّما يذعن به عن طريق المُخْبِر الصادق . قال سبحانه : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ) (٣) .
وعلى هذا ، فالوحي حصيلة الإتصال بعالم الغيب ، ولا يصحّ تحليله بأدوات المعرفة ولا بالأُصول التي تَجَهَّزَ بها العلمُ الحديث . ولما كان العالِمُ الماديُّ غيَر مذعنٍ بعالَم الغيب ، ويرى أنّ الوجود مساوقٌ للمادة والطاقة ، فيشكل عليه الإذعان بهذا الإدراك الذي لا صلة له بعالم المادة وأُصوله .
__________________
(١) سورة الشعراء : الآية ١٩٣ و ١٩٤ .
(٢) سورة يونس : الآيتان ١٥ و ١٦ .
(٣) سورة البقرة : الآية ٣ .