وثالثاً : لو كان لهذه النظرية مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ، فما لنا لا نرى حملة الوحي ومدعي النبوة ينبثون بشيء من ذلك ، بل نراهم على العكس ، ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى الله سبحانه ، ولا يدّعون لأنفسهم شيئاً .
هذا هو القرآن الكريم ـ الذي جاء به النبي الخاتم ـ يصرّح بأنّ ما حوى من الحقائق والقوانين ، ممّا أوحى به الله سبحانه ، وليس هو من تلقاء نفسه :
( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ) (١)
( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٢) .
ولا يشك أحد في أنّ الأنبياء عبادٌ صالحون ، صادقون لا يكذبون ولا يفترون ، فلو كانت السنن التي أتوا بها من وحي أفكارهم ، فلماذا يغرون المجتمع بنسبتها إلى الله تعالى . فهذه النسبة ، إن دلّت على شيء ، فإنّما تدلّ على أنّهم كانوا يجدون في أنفسهم أنّ إدراكَ هذه السنن والمعارف ، إداركٌ وراءَ الشعور الفكري المشترك بين جميع أفراد الإنسان ، وأنّ الطريق الذي يصلون به إليها ، غيرُ طرق الإدراك المألوفة
وبكلمة جامعة ، إنّا نرى في المجتمع الإنساني طائفتين من رجال الإصلاح والصلاح ، كلٌّ يدّعي سَوْقَ المجتمع إلى السعادة :
طائفة ـ ولهم جذور عريقة في التاريخ ـ ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى عالم الغيب ، ويثبتون لأنفسهم مقام الرسالة والسفارة وأنّهم ليس لهم شأن سوى كونهم وسائط لإبلاغ أمر الله ونهيه .
وطائفة أخرى ـ مع اتّصافهم بالصلاح والسداد والسعي وراء الصالح العام ـ ينسبون تعاليمهم إلى قرائحهم وبدائع أفكارهم ، ويعلّلون مبادءهم ببراهين اجتماعية أو تاريخيّة أو عقلية ، ولا يتجاوزون هذا الحدّ قدر شعرة .
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ٥٠ .
(٢) سورة النجم : الآية ٤ .