فالنبي إذا تمّ استعداده ، وصَفَت نفسه ، يجد في نفسه استعداداً للإتصال بذلك العالم الأعلى ، فتفاض عليه الحقائق والدقائق ، من معارف المبدأ والمعاد ، والكون والحياة ، والإنسان والمجتمع ، كلّها بصورة معارف كليّة .
ولكن هذه المعارف إذا تنزّلت إلى الدرجة التالية ، أعني القوة الخيالية ، تتمثل في خياله ملكاً نورانياً يكلمه ويخاطبه بتلك المعارف والأحكام والسنن .
كما أنّها إذا تنزّلت إلى الدرجة الثالثة ، أعني الحسّ المشترك ، قرع أسماعه صوت وكلام تلتذ به نفسه ، وتحفظه مصوناً عن كل تغيّر وتبدّل .
فليس للوحي حقيقة إلّا انعكاس ما في العقل الفعّال من المعارف والعلوم على عقل النبي ، ثم تنزله منه إلى خياله ، ومنه إلى حسّه . وليس هذا الإتصال والتنزل وتلقّي المعارف الكلية ، وتمثل الملك ومشاهدته ، وسماع الصوت والكلام المنظوم ، أشياء وهمية لا واقعية لها ، بل لكلٍّ منها درجة واقعية أحقّ من الواقعية الظاهرية المادية .
يقول صدر المتألهين : « إنّ سبب إنزال الكلام وتنزيل الكتاب ، هو أنّ الروح الإنسانية إذا تجرّدت عن البدن ، مهاجرةً إلى ربّها لمشاهدة آياته الكبرى ، وتطهّرت عن المعاصي والشهوات والتعلّقات ، لاح لها نور المعرفة والإيمان بالله وملكوته الأعلى . وهذا النور إذا تأكّد وتَجَوْهَر ، كان جوهراً قدسياً يسمى عند الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعّال ، وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي .
وبهذا النور الشديد العقلي ، يتلألأ فيها ( أي الروح الإنسانية ) أسرار ما في الأرض والسماء ، ويتراءى منها حقائق الأشياء ، كما يتراءى بالنور الحسيّ البصري ، الأشباح المثالية في قوّة البصر إذا لم يمنعها حجاب ، والحجاب ها هنا هو آثار الطبيعة وشواغل هذا الأدنى . وذلك لأنّ القلوب والأرواح ـ بحسب أصل فطرتها ـ صالحةٌ لقبول نور الحكمة والإيمان إذا لم يطرء عليها ظلمة تفسدها كالكفر ، أو حجاب يحجبها كالمعصية وما يجري مجراها .
وبعبارة أخرى : إذا أعرضت النفس عن
دواعي الطبيعة وظلمات الهوى