فالإنسان العادي اللامس لهذه المعادن المكتنزة ، لا يحسّ فيها بالحرارة ، ولا يرى فيها الناس واللهيب ، لأنّه يفقد حين المسّ ، الحِسَّ المناسبَ لدرك نيران النشأة الآخرة . وأمّا الإنسان الكامل ، المالك لهذا الحسّ إلى جانب بقية حواسه العادية ، فإنّه يدرك الوجه الآخر لهذه الفلزات ، ويحسّ أيما إحساس بنارها ولهيبها ، فلذلك هو يجتنبها كاجتنابه النيران الدنيوية ، ولن يقدم أبداً على جمعها وتكديسها .
وهذا البيان الثاني الذي ذكرناه ، يفيد أنّ للعلم مرحلة قوية ، راسخة ، تُغَلِّب الإنسان على الشهوات وتَصُدُّه عن فعل المعاصي والآثام . ونجد هذا البيان في كلمات جمال الدين الفاضل مقداد بن عبد الله السُيوري الحلِّي في كتابه القيّم « اللّوامع الإلهية » ، يقول : « العصمة ملكة نفسانية تمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه . وتتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات . لأنّ العفة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء وفي الطاعة من السعادة ، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس ، فتصير ملكة » (١) .
وليس المُدَّعى أنّ كل علم بعواقب الأفعال يصد الإنسان عن ارتكابها ، وأنّ العلم بمجرده يقوم مقام التكليف الإلهي ، فإنّ ذلك باطل بلا ريب ، لأنّا نرى الكثيرين من ذوي العلوم بمَضَراتِ المُخَدِّرات والمُسْكرات والأعمال الشنيعة لا يتورعون عن ارتكابها ، استسهالاً للذم في مقابل قضاء وَطَرهم منها . فلو كان العلم بعواقب المعاصي من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك ، لتسرب إليه التخلّف ، لكنّ سنخ العلم الذي يصيِّر الإنسان معصوماً ، ليس من سنخ هذه العلوم والإدراكات المتعارفة ، بل علمٌ خاصٌ فوقها ، ربما يعبر عنه بشهود العواقب وانكشافها كشفاً تاماً لا يبقى معه ريب .
وإن شئت تقريب ذلك أكثر ، فلنفترض أنّ إنساناً يرى أمام ناظريه بركاناً عظيماً يقذف بكتل هائلة من الحميم الملتهب ، ووقف على أنّ اقتراف عمل ما
__________________
(١) اللوامع الإلهية ، ص ١٧٠ .